قضايا وآراء

بين الإرهاب واليمين المتطرف الاتحاد الأوروبي مُهدد بالتفكك

| د. قحطان السيوفي

مع إنشاء الاتحاد الأوروبي تراءى لأوروبا أنها قد تصالحت مع التاريخ، التكامل الاقتصادي كان بمنزلة عامل مُساعد للمصالحة ما بعد الحرب.
يواجه الاتحاد الأوروبي اليوم المزيد من الصعوبات والتحديات، في حماية تجربته التكاملية منها الإرهاب الذي دعمته بعض دول أوروبا والهجرة غير الشرعية، فقد بات واضحاً أن هذه التجربة، دخلت في مأزق أوصلها إلى مفترق طرق يفرض على الدول الأعضاء الاختيار بين بديلين: فإما الإقدام على خطوات تفتح الطريق أمام المؤسسات الأوروبية المشتركة للتحول نحو نظام فيدرالي يمتلك جيشه الموحد ويمارس سياسة خارجية موحّدة، وإما التخندق في مواقع دفاعية يتلقى فيها مزيداً من الضربات التي يتوقع أن تتزايد في المرحلة المقبلة، وربما تؤدي إلى انفراط عقده وتفككه. بالمقابل، تحلّت هذه التجربة بمرونة نسبية سمحت بمسارات تكاملية مختلفة، كالعملة الأوروبية الموحدة، وتأشيرة الدخول الموحدة «شنغن».
في سياق النظام الدولي الثنائي القطبية، تراجعت مكانة القارة الأوروبية، وانقسمت إلى أوروبا شرقية وأخرى غربية وأصبحت محشورة بين قوتين، الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة كحليف، أما اليوم فقد طرأت على النظام الدولي تغييرات عميقة، وخصوصاً بعد وصول دونالد ترامب للسلطة في الولايات المتحدة، وقد وفّرت للأطروحات الشعبوية واليمينية المتطرفة بيئة ملائمة للتكاثر، وفي سياق هذه التغييرات، تبدو أوروبا العجوز محاصرة من الداخل والخارج، ومحشورة بين مطرقة نزعات متطرفة تهددها من الداخل، وسِندان نظام دولي في حالة سيولة كاملة، يهددها من الخارج، ففي الداخل قوى سياسية قومية النزعة ترى في الوحدة الأوروبية خطراً على الهويات الوطينة وتسعى لاستغلال الإرهاب الجهادي والهجرة كوسيلة لترسيخ نفوذها والوصول إلى السلطة في العديد من الدول الأوروبية، الأمر الذي يهدد الاتحاد الأوروبي باحتمال خروج دول أخرى منه، اقتداء ببريطانيا. وفي الخارج نظام دولي تتجلى قوته عبر مظاهر عدة: ففي الولايات المتحدة إدارة ترامب ترفع شعار «أميركا أولاً»، وتحتقر الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتطالب حلفاءها بدفع تكاليف حمايتهم، وفي روسيا سلطة قومية قوية، وهناك أيضاً قوى عالمية صاعدة، كالصين والهند وغيرها، تسعى بقوة لترجمة قوتها الاقتصادية المتنامية إلى نفوذ سياسي يسمح لها بالمشاركة في إدارة نظام دولي متعدد القطبية.
من التحديات الكثيرة، إقدام أغلبية الشعب البريطاني على التصويت في استفتاء عام لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد، وكذلك الخلافات الحادة والعميقة بين الدول الأعضاء كافة حول السياسات الواجب اتباعها إزاء ملايين المهاجرين، وعجز واضح عن الاتفاق على آلية متوازنة تسمح بتوزيع عادل للأعباء الاقتصادية والسياسية والأمنية الناجمة عن استمرار تدفق هؤلاء المهاجرين كما أدى قرار المملكة المتحدة مغادرة الاتحاد الأوروبي إلى إيجاد نوع من الارتباك.
من ناحية أخرى الهجرة تطرح مفهوم شعب الظل.. في أوروبا، نوبات من الخطابة المعادية والأهداف غير الواقعية، مثل تعهد الحكومة الإيطالية هذا العام بطرد نصف مليون مهاجر غير نظامي، هيمنت إدارة الهجرة على الانتخابات الوطنية وعلى أجندة الاتحاد الأوروبي، تمت مناقشتها في لقاء للزعماء في بروكسل يوم 18 تشرين الأول 2018.
بالمقابل على حين دعمت بعض الدول الأوروبية الإرهاب الجهادي في الشرق الأوسط وخاصة في سورية، فإن إرهاب اليمين المتطرف يزداد جرأة في أوروبا، وبعد صيف من الاشتباكات العنيفة والتوترات المتصاعدة سجلت «يوروبول»، وكالة إنفاذ القانون التابعة للاتحاد الأوروبي، زيادة بمقدار الضعف تقريبا في عدد الأفراد الذين اعتقلوا بسبب جرائم يمينية متطرفة العام الماضي، وهو توجه يقول عنه محللون إنه مدفوع بمزيج خطير من السياسات الشعبوية وعدم المساواة الاقتصادية وعدم الرضا عن النخبة الليبرالية والمؤسسات.
اليمينيون في ألمانيا أصبحوا يتمتعون بثقة أكثر، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى نجاح حزب البديل من أجل ألمانيا، وهو حزب يميني متطرف مناهض للهجرة، يحصل على تأييد 18 في المئة من الألمان على المستوى الوطني، ودخل البرلمان الاتحادي الألماني.
في فرنسا، استخدمت الحركة القومية اليمينية المتطرفة «جيل الهوية» حملات إعلامية مخادعة عبر الإنترنت من أجل جمع الأموال، يقول نقاد إن هؤلاء النشطاء يشعلون التطرف العنيف. وصعود الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى السلطة هز النظام السياسي الفرنسي. الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول كان على حق، بعد أن رفض دخول بريطانيا إلى السوق المشتركة في 1963، وأعلن أن الإنجليز لن يقطعوا أبدا علاقتهم القائمة على الاعتماد على الولايات المتحدة.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عقد الأمور، لكنه لم يغير من حقائق التاريخ والجغرافيا، ولاء بريطانيا لواشنطن قاد إلى الغزو الكارثي للعراق وجعلها أسيرة لقومية ترامب العدائية. قدم العراق درسا مختلفا لفرنسا: في وقت الأزمات لم تستطع توحيد بقية دول أوروبا ضد الولايات المتحدة. تنصّل ترامب من القيادة العالمية لمصلحة قومية «أميركا أولاً»، يترك أوروبا لتبذل المزيد من الجهد لحماية أمنها والاتحاد الأوروبي في المقام الأول يبدو مشروع سلام مبني على الخوف بقدر ما هو مبني على الأمل مشروع يعمل من خلال دمج العلاقات المتبادلة في عملية قانونية قواعدها ملزمة. عندما تحصل البلدان على فوائد من دون الوفاء بالتزاماتها، فإن الاتحاد الأوروبي سيتفكك. جوهر الاتحاد الأوروبي هو الفكرة القائلة بوجوب حماية البلدان الصغيرة من البلدان الكبرى، وكذلك حماية البلدان الكبرى من أنفسها، أميركا تلوح بوداع طويل لأوروبا. والمطلوب من الأوروبيين الآن هو تحقيق قفزة خيالية أو الانسحاب من العالم إلى خارج حدوده في سياق كهذا، يبدو الاتحاد الأوروبي الذي دعم الإرهاب الجهادي في الشرق الأوسط وخاصة في سورية، يواجه خطر الهجرة غير الشرعية التي أحد أسبابها الإرهاب، وبين الإرهاب واليمين المتطرف الاتحاد الأوروبي مُهدد بالتفكك، الاتحاد مؤسسة ذات واجهة جميلة لكنها بنيت فوق رمال متحركة، ومن ثم تواجه خطر السقوط. فإما أن تقوم بعملية جريئة للتحول إلى قوة سياسية وعسكرية واقتصادية موحدة كي تحمي نفسها من خطر السقوط، أو تظل واقفة كما هي في مواجهة مصير مجهول قد يعرضها، للتفكك والسقوط تدريجيا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن