قضايا وآراء

القيم والشعوب تباع بالدولار في البورصة الأميركية

| د. يوسف جاد الحق

دونما خجل أو حياء، أو مراعاة للمشاعر الإنسانية أو على الأقل إخفاء نوازع الشر والإجرام، لقاء المال الحرام، الذي هو المطلوب والمرام، في بداية الأمر ومنتهاه لدى سيد البيت الأبيض الأميركي الرئيس دونالد ترامب، دون هذا كله يطلُّ هذا الرئيس، على أهل الأرض قاطبة، بتصريح كاشف فاضح، هو العار عينه، معلناً بغير مواربة بأنه لن يضحي بخسارة مئة وعشرة مليارات من الدولارات، لتذهب، افتراضاً، إلى منافسيه، روسيا والصين، من أجل حكاية لا تستحق عنده هذه التضحية العظيمة وهي اختفاء إنسان غير أميركي اسمه جمال خاشقجي!
بصفاقة، قلَّ نظيرها، يعلن ترامب أن هذه الحكاية يمكن «إدارتها» بطريقة أخرى فهي مسألة هامشية إذا ما قورنت بضخامة المبلغ الذي يلهث وراءه، في نهم منقطع النظير، على الرغم من أنه ليس في حاجة لمزيد من الدولارات المتدفقة عليه من تلك الجهة عينها بسخاء مشهود.
غير أننا، لكي نكون منصفين فإن علينا تقدير ظروفه، وفق ثقافته السوقية «من سوق التجارة»، إذ أنها أفكار رجل، كانت مهنته، قبل ظهوره على الساحة السياسية، تاجر عقارات «فهلوي» أو سمسارها، ولا غرابة، إذا ما نضح الإناء بما احتوى.
بيد أننا إذا ما أمعنا النظر في الأمر، من حيث منطلقاته ونتائجه، وجدناه أخطر بكثير من ظاهره، كما قد يبدو للوهلة الأولى، ذلك أن هذا السلاح الذي ينتظر بيعه إلى تلك الدولة سوف يذهب من فوره إلى قتل مئات بل آلاف من أهل اليمن، إضافة إلى من قتلوا ومن شردوا، ومن جوِّعوا ومرِّضوا حتى الساعة، فماذا يعني إذاً، والحالة هذه، اختفاء إنسان واحد كائناً من يكون!؟ هذا هو منطق عميد ساسة أميركا والغرب اليوم، إنها المتاجرة بالقيم والمبادئ والأخلاق ليس إلا.
أما عن المتاجرة بالشعوب فتتجلى هذه الحالة في شعب اليمن، نحو ثلاثين مليوناً، من البشر يباع بالجملة من قبل تجار السلاح، وأرباب مصانعه في الولايات المتحدة، ليكون وقوداً مستباحاً لنيران حلف، أميركا ضالعة فيه، لقاء الحصول على مزيد من الدولارات المنهوبة ومزيد من «خيرات» النفط والغاز والثروات الدفينة التي تسرق تارة، وتباع بأبخس الأثمان تارة، أو تستنزف لتمنح مجاناً، تارة ثالثة.
المفارقة العجيبة هنا هي أننا «نحن» مصدر تلك الثروات المقدمة لهم لقاء ثمن ما، وعلينا «نحن» في الوقت عينه، أن نعيد لهم ذلك الثمن الذي تقاضيناه على شكل ثمن لصفقات سلاح يرتد علينا إذ يوجه، أولاً وأخيراً، إلى صدور عربية في أوطان عربية، ولتكن اليمن، أو فلسطين، أو العراق، أو ليبيا، أو سورية، أو لبنان، وإيران أيضاً عقاباً لها لتحالفها معنا!
ترى أي فعل يمكن أن يوصف بالتمييز العنصري، في أسوأ صوره ونماذجه وأحطِّها كمثل هذا!؟
رفاه أميركا ومن معها من الأتباع وعلى رأسهم عدونا الألد، إسرائيل واليهودية العالمية، مقابل إلحاق الأذى والدمار بشعوب منطقتنا، عرباً ومسلمين، كإيران، تعيش الفقر والمعاناة بأساليب جهنمية يختلقونها لها: عقوبات، حصار، تحريض، قتل، تشويه إلى آخر ما هنالك مما تنتجه قرائحهم المريضة.
ألا يدعو هذا إلى التساؤل: أين هي إذاً القيم الأخلاقية والإنسانية التي تزعم أميركا دوماً بأنها تتحلى بها «كمجتمع ديمقراطي»، وأنها المنافحة عنها على مستوى العالم كله؟ ولكي تؤكد على مصداقيتها، تعطي لنفسها الحق في فرض عقوبات على هذا البلد أو ذاك، إضافة إلى حق تصنيف الدول بين «خارقة» و«منتهكة» لحقوق الإنسان، وكأن العالم في قاراته الخمس في دائرة سلطانها، وكأنها هي سيدته بغير منازع. الكونغرس الأميركي يقرر، على هواه، موقف أميركا من هذه الحالة، أو هذه الدولة، أو ذلك السياسي، ما يشاء وكيفما يشاء على بلدان وراء البحار على مبعدة آلاف الأميال من أميركا.
الذي يعرفه العالم وفق الأعراف الدولية، في مضمار السياسة، وما تملكه دوله من حقوق في سيادتها على أراضيها وشعوبها، أنه لا يحق لبركان غريب «كالكونغرس الأميركي» التدخل، أو إبداء الرأي، أو اتخاذ قرار في غير شؤون بلده هو تحديداً، فهو غير مخول من أي جهة دولية بحق التقرير في شؤون الغير.
وبالمناسبة لماذا لم يشهد العالم أبداً موقفاً لذلك «الكونغرس» مثلاً، مما يجري من عدوان دائم ويومي على شعب فلسطين من قبل الصهاينة؟ الجواب غير بعيد عما ألفته الدنيا كلها من أن سياسة أميركا تعتمد الانتقاء وفق مصالحها ورغباتها، وهذا الكونغرس «المشرع» لقراراتها معظم أعضائه «من مجلسي الشيوخ والنواب» إنما هم صهاينة ومحافظون، وتجار سلاح، وسارقو نفط، وليس غريباً والحالة هذه أن تكون هذه هي السياسة الأميركية المكيافيلية النفعية هي القاعدة التي تسير عليها، وتحاول فرضها على المجتمع الدولي في سائر أرجاء المعمورة.
إنها العودة، بفجاجة مقيتة، إلى عصور العبودية والاستعباد والاستعمار، ولكن في طبعة جديدة «تلائم روح العصر!»، فالعالم، في حساباتهم قسمان: «عالم أول» سيد، حاكم، قوي، مستبد، يملك من السلاح ما يمكنه من إفناء البشرية عن بكرة أبيها، و«عالم ثالث» فقير، مسحوق، مغلوب على أمره، مصدر للابتزاز والاستغلال إلى حد الافتقار إلى الغذاء والدواء والماء، ولو استطاعوا لتحكموا في الهواء الذي يستنشقه أهله.
شعوب العالم الثالث إذاً، وفي عرفهم، محض سلعة تجارية قابلة للبيع والشراء، وليس أكثر، شاء من شاء وأبى من أبى! غير أننا على يقين، لا يرقى إليه شك، بأنه لا ديمومة لهذه الصورة البائسة المتغطرسة لعالم اليوم، الذي يقف وراءه، بعيداً عن الأضواء في غالب الأحيان، مرابو اليهودية العالمية، والعاقبة لتلك الشعوب الفقيرة المظلومة في نهاية المطاف، فإذا كان للباطل جولة فإن للحق دولة تباركها وتنتصر لها قوانين الأرض وشريعة السماء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن