قضايا وآراء

إسطنبول.. قمة رباعية بمصالح متناقضة

| محمد نادر العمري

كما كان متوقعاً لها، لم تحقق القمة الرباعية التي انعقدت في إسطنبول منذ أيام أي خرق، ولم يتضمن بيانها الختامي أي مخرجات أو مفاعيل جديدة من شأنها دفع التسوية السياسية في سورية أو إعطاؤها زخماً سياسياً يذكر، بل يمكن القول إن هذا البيان في شكله ومضمونه لم يكن سوى نسخة دبلوماسية منمقة ومكررة لبيانات «أستانا» السابقة والقرار 2254، ما يؤدي لاستمرار الهوة في المساحة الشاسعة بين البنود المنمقة والمثالية وبين الممارسات السلوكية للمثلث التركي الفرنسي الألماني.
فوحدة الأراضي والحفاظ على السيادة السورية واحترامها كما تضمنه البيان، هو بند تجاهلته أنقرة وضربت به عرض الحائط على مدى السنوات الثماني السابقة، ابتداء من سعيها لسلخ أجزاء من الأراضي السورية وصولاً لزج قواتها داخل الأراضي السورية بذريعة محاربة الإرهاب ودعم المجموعات المعارضة المعتدلة وإقامة نقاط مراقبة، مروراً بالإجراءات القسرية في فرض الهوية والعملة التركية بدلاً من نظيرتها السورية والتغيير الديموغرافي وغيرها من السلوكيات «التتريكية» التي لا تقل خطورة عمّا تمارسه فرنسا وألمانيا في الشمال الشرقي من حيث دعم القوى الانفصالية وإقامة قواعد عسكرية تحت المظلة الأميركية.
انطلاقاً من هذا الواقع المتناقض بين البيانات الدبلوماسية والسلوكيات المتناقضة، يمكن فهم اللهجة الروسية الحذرة جداً قبل انعقاد هذه القمة، عبر دعوة المتحدث الرسمي للكرملين ديمتري بيسكوف: «إلى عدم توقع حدوث اختراق خلال هذه القمة، وتأكيده أنها مخصصة لتبادل الرأي في الملفات المطروحة وليس لاتخاذ قرارات حاسمة» حسب وصفه، إلا أن الإصرار الروسي على إعادة الدماء لهذه القمة مجدداً بعد إلغائها في أيلول الماضي يعود لمرتكزين أساسيين:
الأول: السعي الروسي لاستثمار برودة الجبهات وتمديد المهلة المحددة لتركيا لتنفيذ التزامها تجاه اتفاق إدلب، لإنتاج ظروف موضوعية توحد مرجعيات العملية السياسية في السورية، ووضع سكة جنيف على مسارها الصحيح عبر استقطاب دول وأطراف جديدة داعمة لمخرجات التوءمين «سوتشي وأستانا»، وهذه شكلت نقطة التقاء لتصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إذ اعتبرا في تصريحيهما الصحفي أن القمة الرباعية «خطوة إلى الأمام» عن طريق توحيد جهود ضامني أستانا مع المجموعة المصغرة، التي أرسل لها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إشارات إيجابية قبل انعقاد القمة عبر ترحيب موسكو «المشروط» بإمكانية التعاون معها لحل الأزمة السورية.
أما المرتكز الروسي الثاني يكمن في منح تركيا أردوغان نصراً إعلامياً في استضافة القمة، ولكن في الوقت ذاته يضيق الخناق عليه ويعقد تموضعه في «عنق الزجاجة» لإجباره على تنفيذ التزاماته أو إعلان إخفاقه تجاه اتفاق إدلب، من خلال توسيع دائرة الدول المؤيدة للاتفاق واحتمالية استقطابهم لفصلهم عن التوجه الأميركي انطلاقاً من مصالح حماية أمنهم القومي وإعادة دورهم بالعملية السياسية واحتمالية مشاركتهم في إعادة الإعمار عبر النافذة الروسية، ولكن هذا التوجه الروسي قوبل بحرص ألماني فرنسي في عدم إظهار مشاركتهما بهذه القمة على أنه تحد للإدارة الأميركية ورئيسها دونالد ترامب وفق تعبير عدد من الدبلوماسيين الأوروبيين لصحيفة «حرييت التركية».
على حين يظهر التناقض بشكل أوسع حول الإجماع الذي تضمنه البيان على إطلاق عمل اللجنة الدستورية قبل بداية العام القادم، ليصطدم بمعضلة حقيقية تكمن: أولاً في سعي أوروبي لربط مشروع إعادة الأعمار بالعملية السياسية وإبقاء دورهم تحت العباءة الأميركية عبر المجموعة المصغرة حول سورية التي توصلت لورقة مبادئ قدمت للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ورفضت من عواصم دمشق وموسكو وطهران، ثانياً في الكباش والسجال السياسي والدبلوماسي الذي قد تشهده الأزمة السورية داخل أروقة الأمم المتحدة وفي اللقاءات الثنائية والموسعة حول اختيار المبعوث الدولي الجديد، ثالثاً في مدى تمسك المبعوث الجديد بالقائمة الثالثة للجنة الدستورية والمسماة في قائمة المجتمع المدني والمحلي وكيفية انتقاء أعضائها، رابعاً في الفيتو التركي الذي يرفض المشاركة الكردية في عمل هذه اللجنة، خامساً في الإجراءات التقنية والفنية لعمل اللجنة وجدول أعمالها وآلية اتخاذ قرارها.
كلام الرئيس التركي عن أن الشعب السوري هو الذي يقرر مصيره ويختار رئيسه، لم تكن سوى خضوع تركي للواقعية السياسية ومناورة أمام الروس لكسب المزيد من الوقت والمماطلة في تطبيق اتفاق إدلب، هذا الواقع السياسي وتقطيع المراحل وحرقها من دون الوصول لنتائج لمثل هذه اللقاءات والمؤتمرات، سيفضي في نهاية الأمر إلى العودة لمسار فرض أمر واقع ميداني تحشد له دمشق وحلفاؤها على جبهة إدلب، وإحياء عجلة «سوتشي» للمرة الثانية بتوافر ظروف إضافية مختلفة، تتمثل:
– استثمار تأزم الوضع السعودي للضغط عليها روسياً لضمان مشاركة وفد الهيئة العليا للتفاوض في هذا المؤتمر.
– توسيع دائرة المشاركة للقوى الكردية للحد من طموحات أردوغان وممارسة الضغوط عليه لتنفيذ التزاماته من جانب، ومن جانب آخر لانتزاع هذه الورقة الكردية من «أسر القبضة الأميركية» لاحتواء الأكراد وإشراكهم في العملية السياسية واللجنة الدستورية لضمان عودة شرق الفرات ضمن تفاهمات سورية سورية برعاية روسية وإيرانية تغني عن المواجهة.
لذلك قد لا نستغرب أن يتم الإعلان في القريب العاجل عن الدعوة لعقد حوار وطني جديد «سوتشي2» وكذلك لا نستغرب أيضاً أن يكون أحد مخرجاتها الدعوة لتشكيل لجنة دستورية بقائمتين على أن تتضمن كل قائمة أعضاء من المجتمع المحلي يتم انتقاؤها من الحكومة والمعارضة أو أن تكلف روسيا انتقاء القائمة الثالثة، فخلط الأوراق مستمر مادامت النيات بعيدة عن التطبيق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن