قضايا وآراء

لعنة اسمها بلفور

| د. يوسف جاد الحق

هاهو ذا قرن كامل يمضي على وعد لم يسبق له مثيل في التاريخ، حيث أعطى «من لا يملك لمن لا يستحق» وعداً قابلاً للتحقق على أرض الواقع، وطناً عربياً اسمه فلسطين لجموع من الغرباء ما هم في حقيقتهم سوى قراصنة أفاقين مستعمرين. وقد كانت، ومازالت تفاعلاته وتداعياته وويلاته جارية حتى يومنا هذا، ليس على الوطن الذي سرق، ولا على شعبه الذي شرد في شتى أرجاء الأرض وإنما على الأمة العربية بأسرها، إن لم نقل على هذه المنطقة من العالم برمتها. ولعلنا لا نكون مبالغين إذا ما قلنا إن العالم كله كان ومازال منشغلاً على نحو أو آخر بتداعيات ذلك الوعد الشيطاني الذي صاغه وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور في الثاني من تشرين الثاني عام 1917 في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
حدث ذلك بناء على مؤامرة بريطانية يهودية لبثت سراً خفياً على العرب، لبعض الوقت، لأسباب استعمارية التقت فيها مصالح الفريقين المتآمرين.
ولئن عمدت بريطانيا للتمويه على الهدف الحقيقي لذلك الوعد، وهو إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين العربية في نهاية المطاف، زعمت أنها إنما ترغب إنسانياً في جمع شتات اليهود المساكين المشردين في أكثر من مكان من العالم ليس إلا! غير أنها ما لبثت أن بادرت إلى العمل حثيثاً على تحقيق أهداف وعد بلفور نفسه على أرض الواقع، فعمدت إلى تعيين اليهودي الصميم، هربرت صموئيل، كأول مندوب سام على فلسطين ينوب عن حكومة الانتداب في تنفيذ بنود الوعد المحقّق لحلم، ثيودور هرتسل، في إقامة «الدولة اليهودية» وفق مؤتمر عقد في مدينة بال بسويسرا عام 1897.
صرح، هربرت صموئيل، دونما تحفظ قائلاً: «لقد عينت في هذا المنصب بوصفي اليهودي خصيصاً لتنفيذ وعد بلفور»، ومن ثم بادر الرجل إلى اتخاذ خطوات وتنفيذ إجراءات دونما قيود أو حدود، وكأنه الحاكم بأمره مطلق الصلاحية على البلاد والعباد، من ذلك:
• تمكين اليهود الوافدين إلى فلسطين من الاستيلاء على أراضي فلسطين لإقامة مستعمرات عليها وبالمجان بدعوى أنها «أراضي الحكومة الأميرية»!
• استيراد أعداد كبيرة من اليهود المهاجرين من أقطار شرقية وغربية، ومنحهم حقوق التملك والاستيطان والعمل في الزراعة وإقامة المصانع مع «الوكالة اليهودية» ومؤسسة «كبرن كايمت»، وكان، بن غورين، يرى أن المستوطنين المهاجرين هم لبنات تكوين الدولة المزمع قيامها.
• إنشاء مشاريع اقتصادية عمرانية كبرى جديدة كمشروع «روزنبرغ» عند البحر الميت لتوليد الكهرباء على ضفة نهر الأردن، وضعت في خدمة اليهود وحدهم دون غيرهم.
أسفرت تلك التصرفات، وغيرها كثير، عن قيام الفلسطينيين بالمظاهرات التي تحولت إلى ثورات متعاقبة، ولكن قوات حكومة الانتداب كانت تبادر إلى قمعها ومجابهتها بالقوة الغاشمة، منحازة تماماً لليهود، فوقع الكثير من القتلى والجرحى والمعتقلين من أبناء فلسطين من مسلمين ومسحيين شهداء ذوداً عن وطنهم، في كل مكان من فلسطين، بل إن حكومة الانتداب ذهبت في انحيازها حد إعدام الفلسطينيين من بينهم فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم الذين سجل واقعة استشهادهم الشاعر إبراهيم طوقان في قصيدته «الثلاثاء الحمراء» وهو يوم تنفيذ الإعدام بحقهم.
ولا بد لنا هنا من القول إن اليهود الدخلاء ما كانوا ليضيعوا وقتاً مطلقاً في استغلال الفرص التي أتاحها لهم وعد بلفور، على حين كان العرب حول فلسطين يعقدون المؤتمرات ويلقون البيانات ويبدون السخط والاستنكار على أحسن تقدير.
من ثم فقد سارع القراصنة إلى تحويل جهودهم إلى الولايات المتحدة، بوصفها «القوة الصاعدة» بديلاً من بريطانيا «القوة المتراجعة» عن إمبراطوريتها التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وقد وجدوا في رئيسها، هاري ترومان، مع نهايات الحرب العالمية الثانية، خير معين على تحقيق هدفهم الأسمى على حساب شعب فلسطين، بعيداً عن دعاوى أميركا الكاذبة على الدوام في حكايات حريات الشعوب، والديمقراطية وحقوق الإنسان وما إليها إن هي إلا شعارات يتشدقون بها كذباً ونفاقاً وخداعاً للشعوب.
لقد عرف عن اليهود، على مدى الزمن، براعتهم في استغلال ما قد يصيبهم من أذى، قل مقداره أو كثر، دونما اعتبار لقيم أخلاقية أو مبدئية، فقد انتهزوا، عندما واتاهم الحظ، بما حدث في ألمانيا إبان الحرب العالمية 1939-1945 فيما عرف بـ«الهولوكست»، ووظفوا هذه المسألة لخدمة أهدافهم بعيدة المدى بحيث مكنتهم من تدفق المهاجرين من اليهود من كل مكان في أوروبا إلى فلسطين، ثم إلى دفع هيئة الأمم المتحدة إلى اتخاذ قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني عام 1947 وإقامة دولة سموها «إسرائيل»، سارعت الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى إلى إقراره، ومن ثم تنفيذه على أرض الواقع، وكأن شعب فلسطين كان مسؤولاً عما حدث لهم هناك، فحل عليه العقاب بالتعويض عما حدث لهم نيابة عن الأوروبيين أنفسهم حلفائهم وأصدقائهم فيما بعد.
ولأنهم يعرفون ما يريدون، ومن ثم يخططون له بدهاء يوصلهم إلى مبتغاهم بميكيافيلية عرفت عنهم أيضاً، فقد مضى أثرياؤهم وزعماؤهم إلى حد التعاون مع هتلر ودفعه إلى إحراق فقرائهم ليحققوا من وراء ذلك هدفين أولهما: دفع جموع من هؤلاء للهجرة في ظل الرعب والهلع مما قد يصيبهم على أيدي النازيين إلى فلسطين الملجأ الآمن، وثانيهما خلق «عقدة الذنب» لدى جميع الأوروبيين وإحساسهم به.
ومما هو جدير بالذكر والملاحظة أن البريطانيين كانوا دائماً أوفياء لبلفور ووعده، كما كانوا أوفياء لليهودية العالمية بأخطبوطها المتشعب في الغرب عامة وأميركا خاصة، ومن ثم فهم لم يغادروا فلسطين قبل أن يضمنوا لليهود وصولهم إلى ما هدف إليه، غير المغفور له، آرثر بلفور، وكان ذلك في 15 أيار عام 1948 تاريخ قيام كيان لهم في فلسطين.
هذا الغرس الشيطاني الذي أوجده، ووضع بذرته في ديارنا ذلك الأفاق الصهيوني، آثر بلفور، إرضاء لحاييم وايزمن، واستجابة لأموال، روتشيلد، وتحقيقاً لحلم، ثيودور هرتسل، أمسى وكأنه «رؤوس الشياطين» أوغل في تدمير المجتمع العربي، وأحل الويلات بشعوب الأقطار العربية كافة، ولم يسلم من أذاه أحد بمن في ذلك من والى أعداء الأمة وانحاز إلى الغاصبين.
إن ما تعيشه المنطقة اليوم في ظل ما سمي «الربيع العربي» ما هو إلا نتاج ذلك الوعد نفسه. فلولا الوجود الصهيوني الهجين في بلادنا لما كان لشيء من هذا كله أن يحدث.
هو السرطان بالمعنى الدقيق والمطلق قائم بين ظهرانينا، والسرطان لا علاج له ولا شفاء من دون استئصاله من جذوره، الأمر الذي بدت بوادره تلوح في الأفق وفي المدى المنظور غير بعيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن