الأولى

تغييب النخب وغياب الأولويات

| بنت الأرض

يتساءل كثيرون اليوم حول هذا التطبيع المجاني الذي نشهده بين دول عربيّة والكيان الصهيوني وسرعة تهاوي جبل الجليد الذي كنّا نظنّه متيناً وراسخاً وقويّاً بينهم وبين هذا الكيان.
البعض يفهم ما يحدث على أنه أصبح قدراً في ظلّ التوازنات الدوليّة، علماً أن هذه التوازنات في ثقلها الحقيقي ليست لمصلحة العدو الصهيوني لو أن هناك طرفاً عربيّاً وازناً يستطيع أن يكون جزءاً من هذه التوازنات. والبعض الآخر يتساءل عن صمت النخب وصمت الشعب العربيّ في مختلف أقطاره، والبعض الثالث يسأل أين القوميون العرب، وما دورهم وما مستقبل هذا الصراع وخاصة في ضوء اتفاقات تبدو وشيكة مع الكيان الصهيوني حتى قبل الاتفاقات الحقيقية والجوهرية بين الفصائل الفلسطينية ذاتها.
جوابي عن كلّ هذه التساؤلات هو أنّنا نحصد نتائج شرذمة الصف العربيّ وتواطؤ بعض هذا الصف مع الخصوم والأعداء منذ نصف قرن ونيّف، كما نحصد نتائج تراجع فكري وثقافي ورؤوي عربيّ وأيضاً نحصد نتائج سياسة اغتيالات إسرائيليّة مدروسة وممنهجة لكلّ صوت حرّ ومتقد ومؤمن حقّاً بالعروبة ومستعد أن يكون جندياً أو شهيداً في سبيلها، وعلى المستوى الداخلي في البلدان العربيّة نحصد ثمرة غياب النخب الحقيقية وتراجع الجامعات كمنارات علم وعمل عروبي مشهود له، يمتلك الرؤية والحصانة والعزيمة على تغيير المستقبل.
نتيجة الغياب الحقيقي لرواد الفكر والنهضة والتقدم العلمي والتقني والبحثي انخفض مستوى الإبداع والإنتاج وأصبحت قامات صغيرة مسؤولة عن صروح علمية كانت تشكّل منارة الثورات التحررية والأحزاب والمنظمات العاملة على بناء الإنسان وتطوير مقدراته.
اليوم الجامعات العربيّة في كلّ أقطارها غير موجودة على لائحة الجامعات المهمة في العالم ولا وجود لمراكز أبحاث عربيّة تنتج فكراً يساهم في تطوّر الفكر العالمي، وبما أن القيمة العليا اليوم في العالم هي للفكر، فإن العرب أصبحوا في بقعة منسيّة يحاول البعض منهم النفاذ إلى واشنطن من خلال تل أبيب، الأمر الذي امتهنت تل أبيب ترويجه وخاصةً في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، العهد الذي أكد الرؤية أنه لا توجد سياسة أميركية في الشرق الأوسط، ولكن توجد سياسة إسرائيلية تنفذها الولايات المتحدة الأميركية.
كلّ قولي هذا لا يصبّ أبداً في خانة الضعفاء أو اليائسين، وإنّما هو تشخيص للوضع لكي نعرف من أين نقطة الانبعاث الحقيقية في هذه الأمة، وكيف يمكن لنا أن نمسك بموطن قوّة لنعزّزه ونطوره ونزيد عليه مواطن كثيرة وفي اختصاصات وفضاءات رحبة ومختلفة.
الواقع اليوم يتطلب مراجعة ونظرة فاحصة ودقيقة لكلّ ما جرى لهذه الأمة خلال نصف قرن مضى، وأخطر ما أوصل هذه الأمة إلى حافة الهاوية هو تغييب النخب وانحدار مستوى التعليم والغياب المطلق لمراكز الأبحاث والفكر وعدم إدراك سلّم الأولويات أبداً، ناهيك عن غياب الصدق في القول والعمل، فقد ترسخت مقولات «كالمساواة» مثلاً وأصبحت المساواة بين المتعلم والجاهل، وبين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وبين أصحاب الخبرات وعديمي الخبرة، فطفت على السطح عينات من الناس غير قادرة على قيادة المراكب وهاجرت أو ابتعدت العقول صاحبة الخبرة والكرامة والقدرة على التطوير.
الوضع التعليمي في العالم العربيّ وضع مرعب بالفعل، وبما أن المدارس والجامعات هي مصنع أجيال المستقبل، فنحن قادرون على أن نستقرئ مستقبل الأمة من خلال تقييم حقيقي لوضع المدارس والجامعات.
جامعاتنا تحوّلت إلى مدارس كبيرة وضخمة وغاب عنها البحث العلمي، على حين في كلّ جامعات العالم هناك مدرسون وهناك باحثون، والبحث العلمي يحظى بأهمية كبرى في جميع الاختصاصات لأنه هو المنتج للمعرفة والمعرفة هي الأغلى ثمناً اليوم في العالم.
مراكز الأبحاث في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة والغرب هي التي تنتج البحث تلو البحث والاستشراف تلو الاستشراف، وتقدّم عشرات الخيارات الإستراتيجية والتكتيكية لأصحاب القرار ليختاروا منها ما يناسب الواقع والمرحلة، وما يناسب مصلحتهم العليا. أما نحن فكلّ إنسان يعتبر نفسه مسؤولاً وباحثاً وخبيراً وقادراً، بشخصه، ووحده، ودون فريق عمل يساعده في معظم الأحيان، أن يغيّر من خريطة العالم. ذلك لأن المنظور العام في العالم العربيّ هو منظور أشخاص وليس منظور فرق عمل، وهذه هي الثقافة التي مازالت سائدة أي ليس منظوراً وطنياً بامتياز ينضوي الجميع تحت عنوان المشروع أو العمل أو الوطن، ولذلك فإن الكيان الصهيوني ينتج دراسات تؤكّد أن اغتيال أشخاص مؤثرين وفاعلين في العالم العربيّ يعوق حركة التقدم ويجمّد، أو على الأقل يبطئ، العمل والإنتاج.
حتى حين يتمّ اختيار مشروع أو عمل ما هناك افتقار إلى جدولة الأولويات ووضعها في إطارها الصحيح، وهكذا فإن تغييب النخب واستهدافها وتهجيرها أو اغتيالها وغياب ثقافة العمل الجماعي وغياب سلّم واضح للأولويات يدع العمل أي عمل في مهب الريح ويمضي الزمن ويتقدم الآخرون ويمتلكون مفاتيح العلم والمعرفة، على حين يشعر من يمتلكون أهم الثروات المادية في العالم أن عليهم الالتحاق بأذيال تل أبيب كي توصلهم إلى بوابة واشنطن.
الردّ اليوم على التطبيع يكون من خلال الثبات على المبادئ المحقّة المتعلقة بالحقوق، وإعادة تشخيص واقعنا بشكل سليم وجريء وإعادة الاعتبار للنخب والبحث والفكر والثقافة ووضع سلّم أولويات إستراتيجية وتكتيكية وطني بامتياز والانطلاق نحو مستقبل مختلف جداً عمّا نشهده اليوم، وهذا وإن استغرق وقتاً فهو ممكن والعرب قادرون على صنعه.
كما صنعوه في الماضي يمكن جداً أن يصنعوه في المستقبل إذا ما أحسنوا التخطيط الذكي له، أي لا توجد خطوات سريعة رداً على التطبيع المجاني، وإنّما يجب أن تكون خططاً إستراتيجية مدروسة وذات رؤى مستقبلية تنقذ هذه الأمة ممّا اعتراها من جهل وإهمال وسوء تخطيط لعقود ماضية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن