ثقافة وفن

العاملات في مقاهي دمشق من رتبة جامعيات وخريجات … بين عادات المجتمع والواقع البحث عن فرصة عمل من أجل كسب العيش !

| هناء أبو أسعد

ارتفعت أعداد المقاهي المصطفة على الشوارع في العاصمة دمشق، وانتعش سوق تشغيل النساء في قطاع سياحي حيوي مهم «المقاهي»، والأسباب مختلفة، من أهمها الحرب التي جعلت أكثرية الشباب ينخرطون في صفوف الجيش للدفاع عن الأرض وربما الهجرة كذلك بسبب الحرب والدمار والقذائف، حتى بات توظيف شابات كعاملات في المقاهي، ظاهرة تستحق الوقوف عندها.
في مقاهي دمشق شابات جميلات ومثقفات، كسرن التابو وخضن هذا المجال من أجل لقمة عيش حلال، يستقبلن الزبائن بابتسامة لطيفة دائمة، لكنّ ابتساماتهن تخفي معاناة.. منهن من اختارت الطريق بمحض إرادتها، ومنهن من وجدت نفسها مجبرة على السير فيه في غياب البديل…!

عمل كباقي الأعمال

اقتَربَت من الطاولة وقدّمت لي ما طلبت، لكن فضولي دفعني أن اسألها عن حالها ودراستها، خصوصاً أنها شابة في سن الدراسة، وتتعامل مع الكثير من الشخصيات في كل يوم.
ابتسمت وقالت: «أنا أسماء، طالبة جامعية سنة رابعة، ربما يرى البعض أن هذا عمل خاص بالرجال وليس من اللائق في مجتمعنا أن تقدم فتاة طلبات للزبائن، حتى أهلي لا يوافقون على ذلك ، لكنني أنا أريد الاعتماد على نفسي في تأمين مصاريف الدراسة التي لا تنتهي، وأضافت: «قليل من يتحمل العمل في هذه المهنة المتعبة نفسياً وجسدياً للنساء، لكنه في النهاية عمل وليس عيباً، بل مثله مثل باقي الأعمال ولا أجد فيه أي اختلاف، فأنا أتعب من أجل كسب قوت يومي، ولا يهمني الآخرون ورأيهم مادمت أقوم بعملي بأدب وإخلاص «.
عملي هو لحاجتي المادية وخاصة أنني مسؤولة عن تربية ابنتي الوحيدة وأعيش مع أهلي وليس لشيء آخر بهذه الكلمات المقتضبة أجابت «نور» عن سؤالي حول ما الذي دفعها للعمل في المقهى، هي لم تجد بديلا من هذا العمل، وهذا ما دفعها إلى الخوض في مجال لم يألفه المجتمع، فرغم الأجر القليل، إلا أنها تؤكد قناعتها به وتمسكها بأن لا شيء يمنعها من العمل، لكنها في مهنتها هذه تصطدم في كثير من الأحيان بأشخاص يتعاملون معها ومع زملائها وزميلاتها بفوقية، لكن هذا يعبر عن تربيتهم، وأضافت إنا أعمل في هذا المقهى بإخلاص ولم أتعرض لأي مضايقات لأنني أنثى ربما لأن هناك اهتمام من رب العمل ومراقبة دائمة للزبائن ولنا فهو لا يسمح بأن نتعرض لأي مشكلة.
تقول «سها» وهي تعمل في مقهى آخر، أتعرض للتحرش في بعض الأحيان، والكثير يفهمون الابتسامة واللطافة في التعامل يشكل خاطئ فيطلبون هاتف بغرض غير أخلاقي، فأقف مترددة ألف مرة بين أن أترك العمل الذي أحتاجه وبين أن أصمت وأحافظ على عملي لأني بأمس الحاجة للمال أنا وأسرتي بعد أن تهجرنا بسبب الحرب، وترى أن العمل في المقهى ليس عيباً، وخاصة إذا حافظت الفتاة على كرامتها التي تعلمت أنها أغلى ما يمتلكه المرء.

سُمعة «سيّئة»

في مقهى آخر ضمن العاصمة تعترف «فاتن « أنها لا تسلم في كثير من الأحيان التحرش والنظرات غير البريئة التي تحاصرها وتتبع خطواتها في الذهاب والإياب، وسماعها للكثير من التعليقات التي تتغنى بمفاتنها ومحاسنها، ولكن بالنهاية الأمر يعود للفتاة فهي من تضع الحدود وتَلزم الزبون بمعاملتها معاملة تليق بها، وتشير إلى أن الكثير من زميلاتها تركن العمل وتوقف بعضهن عن العمل بسبب تعليقات بعض الزبائن ومضايقاتهم، وتضيف، لا شك أن هناك فتيات في مجالنا اخترن هذا العمل اضطرارا وليس اختيارا لأن ظروف الحرب أثرت في الجميع، فأنا مجرد عملي في هذه المنطقة ينظر البعض إليّ نظرة مسيئة، لكن هم لا يعرفون بأني مجبرة على ذلك لأنني بالكاد أجني خبز يومي ومصروف ابني ودراسته إضافة إلى دفع إيجار بيت استأجرته بعدما تركت محافظتي بسبب الحرب، أنا مجبرة على هذا العمل وأحياناً أضطر إلى مسايرة الزبون للمحافظة على لقمة عيشي، فأنا بأمس الحاجة لكل ليرة من راتبي، إن رضي الناس أو لا ،فإرضاء الناس غاية لا تدرك، همي فقط عمل شريف يؤمن لي ولولدي لقمة العيش وأقاوم نظرة المجتمع لأني أعمل في هذه المنطقة وهكذا عمل، الفتاة هي من تحدد طريقة التعامل مع الزبون مهما كان سيئاً.
وإذا كان هذا حال فاتن فإن وضع «ريم» البالغة من العمر 33 عاماً ليس بالأفضل، إذ ما إن سألتها عن سبب عملها بهذه المهنة وفي هذه المنطقة «المرجة» حتى انفجرت مشتكية:» سأكرر دائماً أنا لا أملك شهادة ولست متعلمة، اضطررت للعمل هنا لأني بحاجة إلى مصاريف نقل وأجار منزل وأكل وشرب أنا وعائلتي بعد أن هجرنا مدينتنا بسبب العصابات التكفيرية، والدتي مريضة وبحاجة إلى مصروف خاص للعلاج، وتستدرك قائلة: لا أحد يقدر ظروفنا نحن الفتيات لأننا وبسب انضمام إخواننا الشباب إلى الجيش كان لابد من العمل في جميع المجالات، وأخرجت تنهيدة في الكثير من التعب والحزن والسخط قائلة: «لو أني اهتم بما يقال عن عملي لكنت الآن في المنزل أو لربما فقدت والدتي لأني لم أحصل على سعر دوائها، لكن كل تلك التعليقات التي تصب أكثرها تحت عبارة «عمل مشبوه» لاتهمني، ولا أنكر بأن هناك من الرجال من يتلفظ معي بعبارات خادشة وآخر يقدم لي رقم هاتفه مع مبلغ من المال متوقعين بأنهم يشترون الفتاة ويشيرون إلينا وكأننا «بلا أخلاق»، وهنا أقول البعض أو ربما لأني أعمل في هذه المنطقة بالتحديد، ففي المقاهي الراقية يختلف الوضع، وتضيف: إن بعض الفتيات يشوهن العمل من خلال إعطاء مواعيد للزبائن. ومع ذلك فكثير منهن يرفضن ذلك، ويرفضن أن يتجاوز عملهن خدمة الزبائن في المقهى فقط.

رأي أصحاب المقاهي والناس

اختلفت الآراء فيما يتعلق بعمل المرأة في المقاهي بين مؤيد ومعارض إذ يرى «أبو يحيى» أحد أصحاب المقاهي في دمشق، الخبرة في العمل والأدب والأخلاق هي أساس أي عمل، هكذا بدأ حديثه، وأضاف: التعامل مع الفتاة والشاب على درجة واحدة، ربما يكون الشخص حريصاً في التعامل مع الفتاة أكثر هذا يعتمد على ثقافة وتربية كل إنسان، وأشار إلى أن رمز السياحة في أي بلد المقاهي والعاملون فيها، فعند وصول السائح إلى أي بلد يأخذ فكرة عنه عن طريق سائق التكسي الذي يقلّه إلى الفندق وعامل المقهى الذي يقدم له الضيافة لذلك ثقافة «الكوميك» أو عمال المقاهي سواء كانوا فتيات أم شباناً، مهمة جداً، فيجب أن يكون لديهم ثقافة عامة عن البلد، ووضح بأن من يتحرش بالفتاة العاملة في المقهى لا يملك الأخلاق لأنه لا يعلم أنها اضطرت للعمل بشرف من أجل لقمة عيشها، وخصوصاً أن الأكثرية ممن يعملون هم من خارج العاصمة وأغلبيتهم من طلاب الجامعات.وجوابا على سؤالنا أن هناك من يجذب الفتاة للعمل في المقهى عنده لجلب الزبائن قال: نعم هناك البعض ممن يضعون الفتيات في الواجهة لجلب الزبائن للمقهى ولكن كما قلت سابقاً هذه أخلاق وثقافة الشخص، ومنهم من ينظر إلى العاملين بفوقية متناسين أن هؤلاء معظمهم جامعيون ومثقفون، يعملون ليل نهار مع دراستهم، عندي مثلاً «طالبة سنة رابعة وشاب آخر طب أسنان، وآخر تجارة واقتصاد، وأدب إنكليزي…، الظروف الاقتصادية والحرب أجبرت الكثيرين على العمل في أعمال لا يحبونها لكن لتأمين مصاريفهم اليومية لتوفير ثمن كتبهم ومصروفهم الجامعي، وكثيراً ما يساعدون عوائلهم أيضاً.يكسرون ثقافة العيب ويعملون في المطاعم، هؤلاء هم مثال للشرف والنزاهة والكبرياء، أقول لهؤلاء الذين يتعاملون معه بفوقية وقلة احترام، تعلموا أن الأناقة هي أناقة الأخلاق والتصرفات، ولا علاقة لها باللباس والسيارات والحسب والنسب…كونوا أنيقين بأخلاقكم وتصرفاتكم، فأرقى أنواع الأناقة هي أن تكون: نظيف القلب، طيب الأخلاق، فالكلمة الطيبة هي أساس وكذلك الاستقبال اللطيف، هناك مثل يقول «لاقيني ولا تطعميني»، لذلك الابتسامة وحسن الاستقبال هما الأساس سواء كان العامل فتاة أم شاباً، وعلينا ممارسة المحبة وليس الكلام بها فقط، وخاصة بعد سنوات الحرب التي حرقت كل شيء في البلد.
أما «أبو حسن» رجل مسن يقول هذا تقليد أعمى للغرب والفتاة لا يناسبها هذا العمل لأنه من عمل الرجال.
من جانبه، يتحدث مصطفى (36 عاماً) عن سبب رفضه عمل المرأة في المقهى. ويقول: «لا أحبذ عمل الفتاة في المقهى، بسبب النظرة المجتمعية للمرأة، وارتباط عمل المرأة في مفهوم الرجال بأماكن معينة أفضل دون غيرها، فهم يرون أن مثل هذه الوظائف لا تصلح للمرأة، فرؤية المرأة معلمة يختلف عن كونها تقدم المشروبات.
على حين عارض «عماد» عمل الفتاة في المقهى لأن الفتيات أصبحن يشكلن عائقاً في إحدى فرص العمل التي كان يعتمد عليها الشباب للعمل، لكون المقهى يفضل أن تعمل لديه فتاة أكثر من الشاب، وذلك لعدة أسباب أهمها، أن عملها يعد ظاهرة غريبة ويجذب الزبائن للدخول.
في المقابل، يقول فيصل (46 عاماً): «أذهب باستمرار إلى المقهى لتناول كوب من الشاي مع أركيلة، ولا أبالي بجنس من يقوم بخدمتي، سواء كان فتاة أم شاباً، ما يهمني هو الخدمة الجيدة والأطباق النظيفة، والنساء معروفات باللطافة والنظافة».
ويوافق فراس (37 عاماً ) هذا الرأي. ويقول: «العمل عمل سواء كان للرجل أم المرأة، وبالعكس فالنساء يتقن عمل المطبخ والاستضافة أكثر من الرجال، وهؤلاء يكسبن قوت يومهن بعرق جبينهن، لكن ما يلزمنا هو التربية واحترام عمل المرأة». ويستطرد: «على العاملة في المقهى أن تضع حداً فاصلاً من خلال طريقة تعاملها مع الزبائن، فهي من ستفرض الاحترام عن طريق معاملتهم بلباقة واحترام واحتراف».
أما المحامي «محمد» فيقول: «لا فرق إن كان العامل فتاة أم شاباً، المهم الأدب والاحترام والاستقبال اللطيف والنظافة، ابنتي تعمل في قسم الاستقبال في أحد فنادق العاصمة ولا اعترض على ذلك لأنها تقوم بعملها بمحبة وإخلاص وأدب، وعمل الفتاة في المقهى هو شرف لها فلو أنها تريد القيام بأي عمل غير أخلاقي لحصلت على أكثر بكثير من الذي تجنيه هنا، لذلك هي تفضل هذا العمل المتعب ولكن بشرف وإخلاص.
من جهته، يفضل «رامي» أن تقوم فتاة بخدمته.ويقول عن ذلك: «الفتاة تستقبلك بابتسامة وخفة ونشاط، وتسعى دائماً لتقديم الأفضل، وهو ما يدفعني أحياناً لمنحها إكرامية زيادة على الفاتورة».
وتبدي «أمل» انزعاجها ممن يفرقون بين عمل الفتاة والرجل، لأن الفتاة شاركت في المعركة بجانب الرجل على مدى ثماني سنوات، فهل عمل « الكوميك» في المقهى أصعب من الوقوف على خطوط النار أو في الخنادق؟

أهمية عمل المرأة

للعمل أهمية كبيرة في حياة المرأة وأصبح ضرورة من الضروريات في هذا الزمن بسبب صعوبة الحياة والحاجة المتزايدة إلى المال، وهو أيضاً يعمل على تمكينها من تحقيق ذاتها وبناء كيانها الشخصي الخاص بها في المجتمع، لذلِكَ نجدُ تهافت النساء بشكل كبير على العمل في جميع المجالات، وخاصة أنهن يمتلكن القدرة والقوة والطاقة للتعامل مع مختلف التحديات والصعوبات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن