قضايا وآراء

العوامل المهيئة لنهاية الكيان الصهيوني

| د. يوسف جاد الحق

ليس عسيراً على المراقب الموضوعي للأحداث الجارية والأوضاع القائمة راهناً في المنطقة، وتلك الجارية على قدم وساق في العالم، أن يرى بوادر النهاية الحتمية للكيان الصهيوني قد أزفت، وإن لم نقل إنها أمست قاب قوسين أو أدنى.
ما أحسبنا في حاجة إلى استعراض نظريات فلسفية، أو مقولات طوبائية، أو تصورات قدرية، أو أمنيات ذاتية، وكلها مشروعة وممكنة، كالقول مثلاً إن المصير الحتمي لكل ما هو مخالف لنواميس الطبيعة ومنطق الأشياء لابد أنه منتهٍ إلى زوال، أو القول بأن ديارنا المقدسة سبق لها أن تعرضت منذ ما قبل التاريخ لأطماع الطامعين، ومن ثم لغزوات لا حصر لها، كان مصيرها جميعاً الاندحار والاندثار، وهذه الغزوة اليهودية الغربية لن تكون استثناء بحال من الأحوال.
قبل هذا أو بعده سوف نعمد إلى إلقاء الضوء على الأسباب الواقعية وعلى العوامل المفضية إلى هذه النهاية، التي تتمثل في ناحيتين، إحداهما محلية إقليمية، وثانيتهما دولية عالمية.
العوامل المحلية والإقليمية، نعني بها المعطيات القائمة راهناً والأحداث الجارية والمنتظرة مستقبلاً متمثلة في:
أ- الشعب الفلسطيني بصموده الأزلي الذي لن يلين ولن يستكين ولن يسلِّم بما آلت إليه قضيته، ولن يتنازل عن حقوقه كاملة في تحرير أرضه من الغاصبين، وعودته من ثم، إلى وطنه طال الزمان أم قصر. هذا ما أثبتته الأعوام الخمسة والستون الماضية، والتي لم يمض يوم واحد منها خارج نطاق معركته الدائمة المتواصلة بلا هوادة، وعلى كل الصعد، مع أشرس عدو عرفته البشرية في إجرامه، ومن ورائه أعتى قوى الشر المتغطرسة والمعادية لهذه الأمة، بكل ما تملك من أدوات البطش والمال والإعلام والتكنولوجيا، فضلاً عن الخبث والدهاء والتضليل ونيات السوء التي لا تبيّت لنا إلا التآمر والتدبير، لإعانة هذا الكيان الطارئ الغريب على بقائه بين ظهرانينا لكي يوفر لها، وله أيضاً ما شاء من ابتزاز واستغلال لسائر أهل المنطقة من عرب ومسلمين على حدٍّ سواء.
ب- المقاومة العربية في لبنان وفلسطين المستمرة على مدى عقود طويلة، والتي أصبح لديها القدرة، ليس على الصمود فقط في وجه الأعداء وإنما لإيقاع الهزيمة بهم على أرض المعركة، الأمر الذي لم يكن في حسبانه فيما مضى، هذه المقاومة وقد حققت من الانتصارات ما حققت لن تتوقف أبداً قبل تحقيق النصر النهائي.
ج- القوى المساندة والداعمة للمقاومة من جهات عربية وإسلامية معروفة، وإن قلَّ عددها إلا أنها تملك من القوة ومن الإرادة، وهذه لا تقل أهمية عن القوة، ما يمكنها من توفير أسباب القوة بأشكالها المختلفة من عتاد ومال ودعم معنوي للمقاومة.
هـ- التغير الإستراتيجي في وسائل القتال ونوعية الأسلحة، وقد عملت أميركا على أن تكون إسرائيل هي الأقوى عسكرياً على قوى العرب مجتمعين، غير أن بروز سلاح الصواريخ كقوة مكافئة ورادعة لدى المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، أبطل مفاعيل تلك الإستراتيجية وكسرت ذلك الحاجز، كما أبطلت ما كانت تباهي به إسرائيل من أن قوتها العسكرية «لا تقهر» وإذ بها تقهر وتتقهقر أمام القوة اللبنانية، وحتى في غزة والعدو، ليس من أمامكم والبحر من ورائكم، بل من سائر أطرافها ومن السماء فوقها، ومن ثم إيصالها إلى مبتغاها، هذه القوى مشاركة للمقاومة في معاركها وتوجهاتها وغاياتها النهائية.
العوامل العالمية والدولية، وهي كثيرة متعددة، ولكننا سنكتفي بعدد محدود منها:
أ- انكفاء الولايات المتحدة الأميركية إثر خوضها حروباً في بقاع عديدة من العالم، كالعراق وأفغانستان والصومال، وعدم قدرتها على تحقيق الكثير مما هدفت إليه من تلك الحروب، وصحيح أنها نجحت في السيطرة على موارد النفط وخطوط إمداده في الخليج، ولكن هذا كان بسبب موالاة أهله لأميركا وخضوعهم لرغباتها، وصحيح أنها نجحت في تدمير البنية الأساسية للدولة العراقية، فقتلت وشردت من أبناء العراق الملايين، كما نهبت ثرواته وثرائه وأوابده، وحل جيشه وقوته العسكرية، ذلك كله لمصلحة العدو الصهيوني ونيابة عنه، ولكن الصحيح أيضاً أنها غادرت العراق، تجر أذيال الخيبة، وما جلبه العدوان الأميركي على البلدين من ويلات ودمار غني عن البيان، ولكن ما ينتظرها في أفغانستان هو نفس ما حاق بها من هزيمة في العراق في نهاية المطاف.
ب- ظهور مراكز قوى جديدة في العالم مثل روسيا والصين ودول «البريكس»، وما ترتب على هذا من إنهاء حكاية القطب العالمي الأوحد الذي طمحت إليه الإدارات الأميركية من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب إلى ولاية بوش الابن الذي دمرت سياسته أميركا اقتصادياً وجرت الويلات على الاقتصاد العالمي كله، المشكلة التي لم يتعافَ منها حتى الآن، وكان من شأن ذلك تقليص نفوذها على الهيئات الدولية كلها كمجلس الأمن، وهيئة الأمم، وحتى اليونسكو!
ج- تغيُّر النظرة لإسرائيل على قطاعات واسعة جداً في سائر أرجاء العالم، حتى إن استفتاءات جرت في أكثر من مكان، حتى في أوروبا نفسها، الضالعة معها تقليدياً، أظهرت أن 70 بالمئة من الرأي العام العالمي ترى في إسرائيل خطراً يهدد السلام العالمي.
وليس لنا أن نغفل الآثار المترتبة على المتغيرات الطارئة، سواء منها المحلية أم العالمية، على الوضع الإسرائيلي ذاته ومن هذه الآثار التي لا يمكن إنكارها:
الأثر النفسي، وهذا ما خلفته الأحداث والتطورات المتلاحقة منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، فلقد أصبح كل إسرائيلي فاقداً للإحساس بعنصر الأمن الذي طالما اعتمد عليه قبل ذلك، فهو الآن بات يدرك أن أمنه مهدد، وهو حتى الأمس القريب، عدوانهم الأخير على غزة، أرغم على النزول إلى الملاجئ، كما رأى قادته أنفسهم يهرعون إلى النزول إلى مخابئهم الخاصة تحت الأرض هرباً من صواريخ غزة التي طالما وصفوها بالهشاشة! بيد أن صفة الهشاشة هذه أصبحت من سمات «قبتهم الحديدية»!
عامل الخوف على الوجود، فالإحساس لدى الإسرائيلي بتهديد وجوده، بل وجود «دولته» نفسها، ذلك أنه عايش بنفسه تساقط صواريخ حزب الله عام 2006 تصل إلى مشارف تل أبيب من الشمال، كما عايش بالأمس سقوط صواريخ غزة من الجنوب على تل أبيب وعلى القدس وسائر المستوطنات والمدن الإسرائيلية، وهذا يعني أن كل شبر في فلسطين التي اغتصبها اللصوص اليهود أصبحت في متناول الصواريخ القادمة من الشمال ومن الجنوب، ومن يدري، بل من المؤكد، أن يرى قريباً صواريخ قادمة من الشرق أيضاً، ناهيك عن طائرة «أيوب»، كمقدمة لأسلحة من هذا المستوى سوف تنقض عليه مستقبلاً.
ولنتساءل: منذ متى كانت هذه «الإسرائيل» تصرخ معلنة أنها «تدافع عن نفسها»؟ إلى درجة أن أميركا التي استنجدت بها كعادتها كلما تأزمت أمورها، حرصت على الإعلان على لسان رئيسها السابق باراك أوباما ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بأن إسرائيل «تدافع عن نفسها»! هذا على ما في هذا القول من مغالطة مخزية إذ إن الإدارة الأميركية تعرف أن إسرائيل هي التي شنت عدوانها على غزة، فكيف تكون إذاً مدافعة عن نفسها؟ وهل كانت عائلة الدلو بنسائها وأطفالها البالغ عدد أفرادها أحد عشر إنساناً، إضافة إلى مئات الشهداء والجرحى الآخرين، هل كان هؤلاء ممن شكلوا خطراً على الكيان الصهيوني فقامت بقتلهم «دفاعاً عن نفسها»؟
إن عنصر الخوف المستبد اليوم بالإسرائيلي يدفعه إلى التفكير في مصيره النهائي الذي أمسى يراه رأي العين، ومن ثم أصبح معظمهم يحمل جواز سفر إلى بلد أو آخر توطئة للرحيل للنجاة بنفسه وذويه عندما تحين الساعة، وقادة «إسرائيل» قبل غيرهم يدركون هذه الحقيقة.
انكشاف «إسرائيل» أمام العالم كله على حقيقتها العدوانية، ومعرفة أكثر الناس في العالم، بعد أن كانوا يجهلون هذا، بأنها قامت على أرض فلسطين اغتصاباً، وعلى عمليات مافيات لصوصية شردت شعبها مشتتة إياه في كل مكان من العالم، وملاحقة إياه بالقتل والتدمير حيثما حل، وفي هذا ما فيه من إحساس بالاحتقار لكيانها غير الشرعي، واستنكار ممارساتها العدوانية، وفي الوقت نفسه الانحياز إلى الشعب الفلسطيني تعاطفاً معه، وتضامناً من أجل استعادة حقوقه في وطنه السليب.
هذه العوامل متضافرة، إضافة إلى كثير غيرها مما لا يتسع له المقام، تهيئ الظروف والأسباب التي تبشر باقتراب النهاية المحتومة لكيان قام منذ البداية على العدوان غير المسبوق في تاريخ البشرية على شعب مسالم لم يعتد على أحد، عاش على أرضه منذ ما قبل التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن