ثقافة وفن

رموز تحتاج إلى معرفة للوقوف عندها .. أناشيد الحب السومرية… مرورٌ على ملامح الأسطورة

يقول الشاعر الفرنسي «باتريس دولاتور دوبان» عبارة ساحرة الجمال مفادها: «الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد»، هذه العبارة تكتسب أهميتها مع انتشار الأسلاك وبريق الشاشات السوداء الإلكترونية التي باتت تأخذ الحياة إلى عالمها لتترك برد العواطف والأحاسيس في الحياة الحقيقية، وإذ يرتبط الأدب، والشعر خاصةً بالخيالي الأسطوري، يصبح أكثر قابلية لأن يكون بناء يشمل برؤيته الجمالية المجتمع – علماً وفلسفةً قيماً وعلاقات- فيعيد على طريقته وبخصوصيته، النظر في العالم، حيث يكون نقداً شاملاً، انطلاقاً من تلك الرؤية. هكذا يتاح للرؤية العلمية أن تكون هي أيضاً شعرية، ويتاح للتقنية أن تتنفس هواء الشعر، فتظل الحياة أكثر إنسانية، ويظل الوجود أكثر بهاءً وانشراحاً، ودفئاً.

يصعب في نقل الأسطورة أن تمتلك جملةً متطابقةً مع الجملة الأصيلة التي قالها الشاعر، فالأحرف لم تعد نفسها والأصوات اختلفت، الأحرف الحلقية مثلاً في اللغة السومرية والأكادية تتشابه فحرف الهاء والهمزة، مكتوبان في المسمارية بنفس الطريقة أو بالأحرى هما حرف واحد، لذا فإن السياق هو ما يقود المترجم والباحث لأن يقول الكلمة الصحيحة أو الاسم الصحيح، عدا الاختلاف في بنية الجملة بين العربية واللغات القديمة، إن لم نقل إن كثيراً من أساطيرنا وصلتنا من السومرية إلى العربية عبر لغة وسيطة إما الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية تبعاً للغة الجهة الباحثة والمنقبة، فالجملة في اللغة الأكادية مثلاً جملة إسمية، والاسم يتقدم الفعل الذي يكون آخر الجملة ويكون مخفياً، ومتشابهاً مع اسم ما، مثلاً (الاسم سمكة والفعل يصطاد) يكتبان بنفس الطريقة لذا فإن الفعل في اللغة الأكادية لا يحتل أهمية الفعل في اللغة العربية التي تبدو الجملة فعلية بأغلبها، وتشاركها الجملة الاسمية موقع الأهمية نفسه.
شغلت الأساطير التي جاءت من وادي الرافدين ووادي النيل وبلاد كنعان الباحثين ولا تزال تشغلهم منذ أكثر من مئة عام، هذه الأساطير التي تركها الإنسان باني الحضارة على الألواح الفخارية أو أوراق البردي أو جدران المعابد والمدافن أو النصب التذكارية، هذا الإنسان الذي ابتدع منذ نهاية الألف الرابع وبداية الألف الثالث لما قبل الميلاد فن الكتابة والتسجيل، المعتمد على الرسوم أولاً، ومن ثم تطويره وتبسيط أداة التعبير حتى بلوغ قمة الأبجدية.
هذه الأساطير التي تركت لنا مجالات كثيرة يمكن البحث والتقصي حولها لكن أكثرها كان في الحب، هذا السر الذي يربط السماء بالأرض عبر ماء الخصب والإخصاب، هذا الحب الذي يجعل الرجل يسكب ماء قلبه في رحم المرأة ليرددا معاً أناشيد الحب، التي لا يمكن أن نقرأها دون أن تذكرنا بنشيد الإنشاد التوراتي، وخصوصاً أن هناك نشيد إنشاد سومرياً، يتقاطع بنسبة كبيرة مع التوراتي، ويحتاج إلى بحث تفصيلي كامل قد نجد له مكاناً آخر. وخصوصاً أن أناشيد الحب هذه تترابط مع سردياتٍ نصية ضخمة توضح حوادث ومناسبات متنوعة تحكي لنا عن الآلهة وأدوارها وشجرة العائلة التي تربطها ببعضها البعض، وتروي تفاصيل المدن التي دارت فيها أحداث هذه النصوص. هذه النصوص التي حفظتها تربة وادي الرافدين لأكثر من أربعة آلاف سنة فوصل شيء من التشويه إلى بعضها فكان لابد من ذكر أماكن التشويه التي اعترت كل نص، بسبب عوامل الطبيعة منتظرين ظهور نسخ أخرى من هذا النص يمكّننا من ملء الفراغات التي تركتها الطبيعة على الألواح الفخارية. هذه النصوص بمجملها توضح أن هناك فكراً ميتافيزيقياً يحكم العقل السومري والأكادي والآشوري، أي أجداد هذه المنطقة، مؤكدين أن الفكر الميتافيزقي هذا يدل على أن المنطقة ارتبطت بالأديان بشكل دائم منذ فجر تاريخها وكل نص يبرز له قراءتان قراءة ظاهرية للحدث وقراءة رمزية (باطنية) تجعل المعنى متفتقاً؛ رابطة إياه مع تطور الفكر الذي تعيشه المفاهيم الرمزية الصوفية للأديان والمذاهب في ظاهرها وسرّانيتها.
فلقد أقام الإنسان لنفسه مفهوم الإله القاضي الذي يحاكم، يجزي من يرضيه ويعاقب من يخالفه. وهكذا أيضاً اشتملت رمزية الأساطير على كل ما اهتز في دخائل نفس مبتدعها من المعاني الحياتية المهمة، فالتسامي والسقوط، واستحقاق الثواب ورهبة العقاب والقلق أمام المرض والموت، والبعث والخلود والسعي وراء الحياة وغيرها الكثير ظهرت في أساطيرنا القديمة؛ فلقد فرق الإنسان القديم منذ بداية تأمله فيما يحيط به بين ما هو فوق وما هو تحت، بين الأعلى والأسفل، فالآلهة هم في الأعالي كما في بداية قصيدة التكوين والخلق البابلية. فالأرض هس الأم المغذية، يخصبها الإله الذي أراد الخير للبشر، فالجنس الذي يشكل جذر قصص الحب عبارة عن فهم للاتحاد بين العلوي «الروحي» والسفلي «المادي» وهذا الاتحاد هو أساس الحياة ومبررها، ومن ضمن هذه الرؤية ينبع مفهوم الجنس في الأسطورة الذي صار الحب تطوراً عنه.
تبقى لغة الرمز في الأساطير لغة محجبة حتى تتبين بعض مدلولاتها ونتعرف إلى قاموس المفردات الذي تتبعه، فصراع الإله ضد الشياطين والوحوش يرمز إلى صراع الإنسان بين هواجسه الصائبة والهواجس الخاطئة، وهي نابعة من المحاكمة الصميمية في الإنسان نفسه. ويرمز الجبل في قممه ومهاويه إلى إمكانية التسامي وفي الوقت نفسه إمكانية السقوط، فالآلهة السومرية تقيم على «جبل الكون المقدس». ويرمز العالم السفلي إلى الرغبات المكبوتة المحملة بالشعور بالذنب والمعصية، فملكة العالم السفلي «إيريشكيجال» هي ملكة اللاوعي وخفايا الشعور وأتباعُها يلاحقون الإله تموز أو دموزي الراعي، وهو يحاول الهروب والاختفاء من شعوره بالذنب، يمكن متابعة تقديم أمثلة أخرى على رموز لغة الأسطورة، لكن الدخول في التحليلات الرمزية لكل نص تحتاج الوقوف معها نصاً؛ وتحليل رمزيتها للدخول إلى عوالمها وعدم الاكتفاء بالتعليقات الاجتماعية أو اللغوية أو التاريخية المحلية التي نعرفها عن النص، لأننا بحاجة إلى نبش أسراره فهذه الأساطير والنصوص تحتاج الكثير من الكشوفات والدراسات.

| أحمد محمد السح

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن