قضايا وآراء

إفلاس أم بداية الإقرار بالهزيمة في العراق؟

في الـ16 من تشرين الأول 2006، كشفت صحيفة «لوس أنجلس تايمز» الأميركية عن تشكيل الكونغرس الأميركي «مجموعة دراسة العراق» لتقييم سياسة الولايات المتحدة فيه، واقتراح السياسات الأميركية الإستراتيجية لداخل العراق ودول الجوار، مؤلفة من 10 أشخاص، تقاسم رئاستها وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر مع النائب الديمقراطي لي هاميلتون، بمشاركة رئيس لجنة الخدمات العسكرية في مجلس الشيوخ السيناتور جون وارنر، وكان جيمس بيكر قد صرح خلال لقاء تلفزيوني قبل كشف «لوس أنجلس تايمز» لتلك المعلومات، أن «تقريرنا سيتضمن على الأرجح بعض الأمور التي لن تعجب الإدارة»، معرباً عن إيمانه بمبدأ «التحاور مع أعدائك»، مضيفاً: إن «أياً من السوريين أو الإيرانيين لا يريدون عراقاً مضطرباً، لذا فمن المحتمل أن نحصل على شيء بخلاف العداء من هاتين الدولتين»، مؤكداً أن اللجنة استشارت أكثر من 150 خبيراً.
صحيفتا «ذي غارديان» و«ذي اندبندانت» البريطانيتان أشارتا في الـ21 من تشرين الأول 2006 لبعض التسريبات عن الخيارات المتاحة للولايات المتحدة وبريطانيا من أجل إحداث تغيير جذري يؤدي إلى وقف التدهور الدامي في العراق آنذاك، وبينت «ذي غارديان» أن وزارة الخارجية البريطانية «تؤيد اقتراحات لجنة بيكر في شأن الحوار مع سورية وإيران، وتشجع هذا التوجه»، كاشفة عن أن السفير البريطاني في بغداد دومنيك اسكويت والسفير البريطاني في واشنطن السير ديفيد مانينغ ساهما في تقديم معلومات ساعدت في إعداد تقرير لجنة بيكر.
وبطبيعة الحال لم يُؤخذ بتوصيات «مجموعة دراسة العراق»، بل سلكت الولايات المتحدة الأميركية منذ ذاك التاريخ حتى الآن عكس ما ورد في تلك التوصيات، بمعاداتها إيران، وخلق الفتن في سورية والعراق، بل إنها خلقت تنظيم داعش ورعته في المنطقة، مما لا يجعلنا أن نستغرب حالة التخبط والمواقف الأميركية العنجهية في العراق، وبخاصة موقفها اليوم من قوات الحشد الشعبي، وسعيها الدائم إلى استحضار الفتن والقلاقل والحروب في المنطقة.
ما من إضافة إذا قلت إن الساسة الأميركيين يفتقدون على الدوام إلى الأدب واللباقة الدبلوماسية والواقعية، فرئيسهم «فظ» اللسان حتى مع حلفاء الولايات المتحدة الأميركية من الأوروبيين، وبطبيعة الحال مع عملائهم في المنطقة، كآل سعود وغيرهم، إلا أن سلوكهم في العراق، حالة خاصة من الغباء والوقاحة والعنجهية منذ احتلاله عام 2003 حتى تاريخه.
الجديد في المواقف الأميركية الرعناء بالعراق، هو البيان المقتضب الذي نشرته السفارة الأميركية في بغداد في الـ31 من الشهر الماضي، حيث قالت: «مع تبقي ستة أيام على الموعد النهائي لفرض العقوبات، هذا هو المطلب السادس كي يتصرف نظام إيران كدولة عادية: يجب على النظام الإيراني احترام سيادة الحكومة العراقية، والسماح بنزع سلاح الميليشيات الطائفية وتسريحها وإعادة دمجها»، وهو ما استدعى رد الخارجية العراقية في بيان لها في الـ3 من الشهر الجاري، قالت فيه: إن «وزارة الخارجية تابعت البيان الصادر عن السفارة الأميركية في بغداد بخصوص نفاذ العقوبات الأميركية الأحادية الجانب ضد الجارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، مضيفة: إن «الوزارة تود أن تبين أن الجزء الثاني من البيان المذكور يتجاوز الأعراف الدبلوماسية والاحترام المتبادل لسيادة الدول كمبدأ راسخ في القانون الدولي»، مؤكدة أن «العراق يرفض التدخل في قضاياه الداخلية، ولاسيما قضايا الإصلاح الأمني الداخلي ووضع القوات الأمنية التي تخضع لسلطة رئيس مجلس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة»، وأن «العراق يتطلع إلى أن تقوم السفارة بحذف تلك التصريحات غير المتفقة مع القواعد والأعراف الدولية وتجنب تكرارها مستقبلاً، ومراعاة قواعد القانون الدولي التي تحكم عملها في العراق بوصفه الدولة المضيفة».
وفيما بدا أنه كان رداً دبلوماسياً راقياً جاء في محله، قال رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة عادل عبد المهدي خلال اجتماعه بقيادات الحشد الشعبي في بغداد في الـ5 من تشرين الثاني الجاري في بيان صحفي: إن «الحشد حقيقة كبيرة لا يمكن تجاوزها ومن واجبنا دعم الحشد»، معتبراً أن «الإبقاء على الحشد من أهم واجباتنا وسأدعم هذا الوجود بقوة وهناك من يحاول أن يقول: «إن الحشد مؤقت، أنا أؤكد الحشد ضرورة باقية»، مضيفاً: «مع أن تشكيل الحكومة عمره قصير، لكني سأبذل كل جهدي كي يحصل الحشد على كامل حقوقه»، و«شهداء الحشد يجب أن يكرموا تكريماً يليق بهم»، مُبلغاً قادة الحشد الشعبي أن «مجلس الوزراء قرر بالإجماع مساواة رواتب المنتسبين في الحشد الشعبي، مقارنة بالجيش والداخلية».
إن بيان السفارة الأميركية في بغداد يؤكد أن الأميركيين مازلوا يخططون للمؤامرات ضد قوات الحشد الشعبي، فهم لم يكتفوا بضرب قواته بـ«الخطأ»! كما جرى فيما مضى عدة مرات، ولم يرتدعوا من نتيجة دفع بعض المندسين في التظاهرات المطلبية بمدينة البصرة في الـ5 من أيلول الماضي، لإحراق مقرات الحشد الشعبي بالمدينة، حيث أرعبتهم بضع لا فتات علقت في شوارع مدينة البصرة، كتب فيها «القنصل الأميركي سبب خراب البصرة»، فأغلقوا قنصليتهم بالمدينة وفروا.
ومع أن السفير الأميركي في العراق يعرف أن مجلس الوزراء العراقي كان قد أصدر في الـ22 من آذار 2016 قراراً اعتبر فيه قوات الحشد الشعبي «تشكيلاً عسكرياً مستقلاً وجزءاً من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة»، وأن المجلس النيابي العراقي أقر في الـ26 من تشرين الثاني 2016، قانوناً يضع هيئة الحشد الشعبي بإمرة القائد العام للقوات المسلحة، معتبراً تشكيلاته «كيانات شرعية تتمتع بالحقوق وتلزمها الواجبات باعتبارها قوة رديفة مساندة للقوات الأمنية»، إلا أن بيان سفارته عكس صورة واقعية عن مدى التدخل الأميركي في الشأن الداخلي العراقي، بوصفه مقاتلي الحشد الشعبي بـ«الميليشيات الطائفية»، كما كان البيان برهاناً كبيراً عن مدى التطابق مع الحملات الإعلامية الخليجية التي تطلق ذات الوصف على الحشد الشعبي، بمقابل وصف إرهابيي داعش في صحفهم وفي المواقع الإلكترونية التي يمولونها بـ«الجهاديين».
حقيقة الأمر، أن واشنطن بعد أن فشلت مساعيها في عرقلة وصول «تحالف الفتح المُبين» الداعم للحشد الشعبي إلى المجلس النيابي، حيث فاز بـ48 مقعداً، وحل ثانياً بعد «تحالف سائرون» المدعوم من مقتدى الصدر الذي حصل على 54، وبعد أن فشلت كل تدخلاتها بتشكيل الحكومة العراقية، حيث حلفاؤهم من الساسة الأكراد وبعض السنّة اللذان لديهما تجربة سيئة مع الوعود الأميركية خلال السنوات الماضية، لم يعدا طيّعين لضغوطها عليهم، فَقَدَ السفير الأميركي في العراق وإدارته توازنهما، وأخرجهما عن الأصول والأعراف الدبلوماسية السائدة، مقحمين هيئة الحشد الشعبي ضمن شروط الرئيس الأميركي ترامب لوقف ما أسماه «العقوبات ضد إيران»، خاصة مع تصاعد المطالبات العراقية في أن تكون أول مهمة للمجلس النيابي الجديد هي سنّ قانون إخراج جميع القوات الأجنبية من العراق، وعلى رأسها الجيش الأميركي، فيما كان المجلس النيابي السابق قد صوت في الـ6 من آذار الماضي على صيغة قرار، موجهاً الشكر إلى «جميع الدول التي وقفت مع العراق في حربه ضد عصابات داعش ويدعو الحكومة إلى وضع جدول زمني لمغادرة القوات الأجنبية من العراق».
إن حجة وجود القوات الأميركية في العراق انتفت بعد الانتصار العراقي الكبير على تنظيم داعش، وبات استمرار وجودها يُشكل مصدراً للدمار والتخريب، عدا أنه دعم للإرهاب ولأعداء العراق، ونقطة وثوب دائمة لتغيير الخرائط السياسية في المنطقة لصالح الكيان الصهيوني، وهذا لن يتوقف إلا بطرد القوات الأميركية نهائياً من العراق، وقبل ذلك طرد سفيرها في بغداد دوغلاس سيليمان.

| أحمد ضيف اللـه

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن