قضايا وآراء

الدستور قضية مقدسة

| د.بسام أبو عبد الله

يتخيل المرء لكثرة الاهتمام الدولي الواسع بقضية الدستور السوري أن هناك تعديلاً سيجري لميثاق الأمم المتحدة، أو أن هناك دستوراً سيوضع كمعيار دولي تتبعه كل الدول بما في ذلك الدول «الديمقراطية جداً» مثل قطر والسعودية!، ومن ثم لابد من إيلاء الاهتمام الكبير بمسألة الدستور السوري، هكذا على الأقل ما يمكن للمواطن البسيط أن يفهمه من كثرة النشاط الدبلوماسي الدولي وكثرة الاجتماعات بهذا الشأن، والحقيقة أن الأمر في مكان آخر تماماً، وأن قوى العدوان الفاشي على سورية تعتقد أن ما فشلت في تحقيقه عسكرياً عبر المرتزقة، والقتلة والإرهاب بأشكاله كافة، يمكن التسلل من نافذة أخرى لتحقيقه وهي لجنة مراجعة الدستور السوري التي تحاول بعض القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، مصادرتها والهيمنة عليها من أجل تمرير أدوات نفوذها المستقبلية تحت عناوين براقة وجذابة.
من هنا فإن واشنطن لم تخجل مطلقاً مع حلفائها الفرنسيين والبريطانيين، وأتباعهم العربان من إصدار ما عُرف بـ«ورقة اللاورقة» في 25 كانون الثاني 2015، التي تضمنت خريطة طريق للحل في سورية حسب تصورهم كـ«مجموعة عمل دولية مصغرة» حسب ما يسمون أنفسهم، وهذه الورقة عكست إقراراً أميركياً بفشل، وسقوط الخيار العسكري، ولكنها في الوقت نفسه أكدت أن محور العدوان لم يتخل عن أهدافه، لكنه يعمل على تحقيقها عبر الأدوات الناعمة، أو الأدوات السياسية محاولاً إيهام الجميع أنه يؤمن بالحل السياسي، ويريد السلام في سورية! لكن هذا المحور عاد وشرح أهدافه في أيلول 2018، عندما سلم المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا ما سُمي «إعلان مبادئ مجموعة العمل الدولية المصغرة من أجل سورية»، وضع فيها شروطه لعلاقات طبيعية مع الحكومة السورية التي تنجم عن العملية السياسية وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، ومنها مثلاً ألا تكون هذه الحكومة راعية للإرهابيين حسب زعمهم، أي داعمة للمقاومة، وأن تتجرد سورية من أسلحتها الاستراتيجية، وتقطع علاقاتها مع إيران وحزب الله، وشروط أخرى، وأما بالنسبة لما سموه «الإصلاح الدستوري» فحسب هذه الوثيقة لابد من أن يقود الحكومة، رئيس وزراء ذو سلطات قوية، وأن يتم تعيينه مع الحكومة بطريقة لا تعتمد على موافقة رئيس الجمهورية، كما تشير ورقة إعلان المبادئ هذه إلى الإشراف الأممي على الانتخابات بطريقة تنتهك السيادة السورية، وغير ذلك من الشروط.
هكذا تتخيل واشنطن وحلفائها، آلية وطريقة الحل السياسي، وما يسمونه «الإصلاح الدستوري»، أي أقرب إلى شكل من أشكال الانتداب والوصاية، إذ لا ترد أي كلمة عن إرادة الشعب السوري وقراره، ولا عن الحكومة السورية الشرعية التي تجد مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة نفسها تسمع صدى صوتها القوي في أروقة مجلس الأمن، وقاعات الأمم المتحدة.
إن فهم أهداف ونيات خصومنا وأعدائنا هو أمر غاية في الأهمية لإدراك ما يخططون له، ويعملون عليه تحت عناوين مختلفة هذه المرة مثل: القانون، الدستور، الحقوق، مستقبل سورية، ولا مانع من كلمات عن الحرية والعدالة، والشعب السوري والحرص عليه، وكأن السوريين أبناء عمومة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي.
لكن الأمور واضحة لدى دمشق التي تخوض معركة سياسية دبلوماسية على جبهة الدستور ولجنته، إذ إنها تؤكد دائماً أن ملكية اللجنة الدستورية، وولايتها شأن سيادي سوري، وأنها تنطلق في ذلك من الالتزام بالسيادة السورية، والاحترام لقرار الشعب الذي هو صاحب ومصدر كل السلطات، وإضافة إلى ذلك إن الشعب السوري أظهر دعماً لرئيسه في انتخابات عام 2014، ولجيشه في معركته الوطنية الكبرى حيث قدم أبنائه دفاعاً عن سورية ووحدتها، وسيادتها واستقلالها، ومن ثم فإن دمشق ترى أن مسألة الدستور أو تعديله هي مسألة سيادية سورية بحتة، وتخص الأجيال القادمة، وهي قضية لا يمكن التساهل بشأنها، أو المساومة عليها، ولذلك فإن دي ميستورا تبلغ خلال زيارته الوداعية الأخيرة إلى دمشق، أنه لا مكان لأي طرف دولي، ولا حتى للأمم المتحدة فيما يخص الدستور، فهذا شأن سوري سوري، ودور أي جهة هو تيسير وتسهيل الأمور، وليس الحلول محل السوريين، وتركيب دستور لهم مملوء بالمفخخات التي ستنفجر في كل خطوة في المستقبل، وتفتح بوابات التدخل الخارجي للتلاعب في مسائل وطنية سورية، أسوة بما نراه لدى جيراننا في لبنان والعراق.
لقد أبلغت دمشق الأمين العام للأمم المتحدة بموقفها الواضح والصارم، بشأن تشكيل اللجنة الدستورية المتمثل بضرورة الالتزام قولاً وفعلاً بسيادة سورية واستقلالها، ووحدتها أرضاً وشعباً، وأن عملية اللجنة الدستورية يجب أن تتم بقيادة سورية، وأن الشعب السوري هو صاحب السيادة الوحيد، مع رفضها لفرض أي شروط أو استنتاجات مسبقة على اللجنة، وعدم فرض أي مهل، أو جداول زمنية لعمل اللجنة.
تحاول بعض القوى الدولية تفخيخ عمل اللجنة الدستورية عبر الدفع بأدواتها، وممثليها فيها من خلال ما يسمى بمجموعة المجتمع المدني، ولذلك فإن النقاش والجدال يتم حول هذا الجزء من اللجنة منعاً لاستغلاله بهدف تمرير بعض البنود المفخخة التي قد تكون حمالة أوجه فتفتح أمامنا بوابات الجدل والنقاش، والتدخلات الدولية مستقبلاً.
إن الدستور هو ليس فقط مادة قانونية بحتة، بل إنه الوثيقة التي تقدم هوية الشعب، والدولة السياسية والثقافية، وتعكس تاريخها وآمالها وتطلعاتها، ولذلك فإن كل كلمة فيه تعنينا كمواطنين سوريين، ولا يمكن التساهل في هذه المسألة، أو كما يسميها البعض، إبداء المرونة، لأن مستقبل أجيالنا بين أيدينا، وكذلك آمال شعبنا وتطلعاته، وقيمه ومبادئه، ولذلك فإن معركة الدستور، وقضيته هي قضية مقدسة فعلاً لكل سوري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن