ثقافة وفن

المثقف في عصر السوشيال ميديا

| د. رحيم هادي الشمخي

حسناً، هل ثمة معيار يمكننا به معرفة المثقف في عصر السوشيال ميديا؟ نعم هناك معيار واضح هو ازدياد عدد متابعي هذا المثقف وتفاعلهم السريع معه مع ازدياد السبب. إن الشعبوية تعني مغازلة عواطف الجمهور ومخاطبة انفعالاته ومقدساته، وبهذا يمكن للشعبوي السيطرة عليه وتحريكه، وللشعبويين وجود في كل المجالات تقريباً، في السياسة والدين وفي الثقافة والفنون والآداب.
وفي عصرنا الحالي، ثمة صورة للمثقف الشعبوي يستطيع رؤيتها كأوضح ما يكون في وسائل التواصل الاجتماعي. إنه مثقف رافض لكل شيء، غاضب دائماً، يتحدث بنبرة عالية ولغة حادة، يشتم جميع الأديان والمتدينين والمتحزبين والسياسيين والمخدوعين الطائفيين، يهاجم العامة كما يهاجم الخاصة، ويوشك أن يخنق الأصوات التي تخالفه، وعذره في هذا أنه لم يجدِ مع (الأغبياء) سوى العنف الثقافي، يميل إلى الكتابة البلاغية التي يملؤها بالمفارقات اللغوية والاستعارات والكتابات، وإن أعيته الحيلة التجأ للتغريب لكي يثير غضب من يتقصدهم بثورته، فهو شتّام تهكمي، يلجأ إلى لغة يقينية رغم أنه يزعم تعرية اليقينيات.
لِمَ أعدّ هذا الأنموذج مثالاً لشعبوية عصر السوشيال ميديا؟
أعدّه كذلك لأنه لا يختلف عن شعبوي السياسة والديانة من ناحية مغازلة انفعالات الجمهور من دون عقله، وهذا الجمهور يتكون في أغلبه من أرباع مثقفين لم يجدوا الفرصة ليكونوا مثل ذلك الشعبوي ويتوفروا على مهاراته.
الحق، إن هذا الأنموذج قد يختلط مع المثقف النقدي الذي طالما تحدّث عنه النقاد الثقافيون، أعني الرافضين والثوريين ممن ينطلقون من شعار «لست ضد آلية الجمهور، بل ضد فكرة الجمهور عن الآلة»، وثمة فيهم من دعا لإحراق الكون كله وتهديم القيم السائدة، كيف إذاً نميّز بين الاثنين؟ سؤال جوابه يسير في رأيي، فالمائز بين الاثنين هو الجماهيرية، الشعبوي جماهيري ويتابعه عشرات الآلاف، على حين المثقف النقدي الحقيقي لا يتابعه إلا القلائل، كذلك يميل الشعبوي إلى صوغ عناوين وشعارات ويهرب من النقد التحليلي المفصل، على حين يميل المثقف النقدي إلى الحفر والاعتماد على الأرقام، بل لا تراه إلا وإزميله في يده، سواء كان ناقداً أم فناناً، عدا ذلك، الشعبوي عدائي نرجسي، لا يعتقد بالرأي الآخر، لأنه ليس معنياً بالوصول إلى حقيقة ما عبر الحوار قدر ما هو معني بتهديم حقيقية سائدة من دون توافره على فهمها أحياناً، وآليته لتنفيذ ذلك قطع قناة الحوار وليس مدها، على أن أغرب ما في الشعبوي هذه الأيام هو اعتقادهم أنهم (أتوا بما لم يستطعه الأوائل)، على حين إن الظاهرة أقدم من (الله بالخير)، وكانت عرفتها أوروبا في العشرينيات ووصلت الأمور ببعض المفكرين آنذاك إلى الدعوة لإحراق العالم والتخلص من الضعفاء وإشاعة الفوضى، هذه أهم خصائص شعبوي (السوشيال ميديا) فتأمل يا صاحبي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن