قضايا وآراء

موسكو وبكين والصدع الثنائي في السياسة الأميركية

| د. قحطان السيوفي

روسيا والصين دولتان رئيستان على الساحة الدولية منافستان للولايات المتحدة، أحدثتا صدعا مزدوجا في السياسة الأميركية.
المشهد الحالي يشير إلى أن كل بلد منهما ينظر إليه كل حزب من الحزبين الأميركيين نظرة متباينة. الحزبان الديمقراطي والجمهوري تحركهما نزعة محلية تتسم بالمزايدات. الديمقراطيون يدعون أن الجمهوريين قد تواطؤا مع روسيا للفوز بالانتخابات الرئاسية. الرئيس الأميركي دونالد ترامب بدوره يدعي أن الصين حاولت التدخل في الانتخابات الرئاسية 2016 لمصلحة المرشحة السابقة هيلاري كلينتون.
واشنطن، بعد الانتخابات التشريعية النصفية، لا تزال غارقة في لعبة اتهامات مثيرة للجدل لا يعرف من الرابح فيها، والنتيجة كأن الولايات المتحدة «بدأت في فقدان سيطرتها على المصلحة الوطنية» كما كتب ادوار لوس في «الفاينانشال تايمز» في تشرين الأول 2018.
هذا يُحدث مشكلة لحلفاء أميركا الأوروبيين واليابان وكوريا الجنوبية، ومكاسب واضحة بالنسبة لمنافسيها. خلال الحرب الباردة، كان الحزبان الأميركيان في توافق حول احتواء الاتحاد السوفييتي، وكانت معظم الخلافات بينهما تقتصر على المسائل ذات الطابع التكتيكي.
بالمقابل التقارب في المواقف السياسية، والتعاون الاقتصادي بين روسيا والصين يشير للمزيد من التنسيق على الساحة الدولية، ويأتي التوافق الروسي الصيني في سياق وعي عالمي لخطورة التفرّد الأميركي بالهيمنة على السياسة العالمية، والدعم غير المباشر للإرهاب، كما يهدف التوافق لإقامة تعدّدية قطبية على مستوى القرار الدولي وسط تعاون متزايد في مسائل عديدة منها قضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك المواجهة السياسية حول الحرب الإرهابية الكونية على سورية. وبالمناسبة شكّلت الأزمة السورية «نقطة اشتباك» في زمن التحوّل الإستراتيجي في العالم العربي. وكان الموقف الروسي الصيني المشترك في مجلس الأمن، جزءاً من التنسيق السياسي بين الدولتين في مواجهة سياسة ترامب خلال شهر تشرين الأول 2018 أعلن مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي، حربا باردة جديدة على الصين. وكانت صدمة الخطاب مضاعفة: فقد كان من المفترض أن يشير إلى تحول كبير في السياسة الخارجية، وكان تخبطاً داخلياً، لكن الديمقراطيين لم يعيروه أي اهتمام.
بنس قدم أدلة ضئيلة، عرض من خلالها أن تدخل روسيا المزعوم في الانتخابات «يتضاءل مقارنة» بتدخل الصين. علاوة على ذلك، أرادت الصين طرد ترامب من الرئاسة.
والمثير للاستغراب أن لبنس إستراتيجية ما لاحتواء الصين. فقد كان هدفه الأساسي هو صرف الانتباه عن ادعاءات الديمقراطيين حول روسيا. بالمقابل يُظهر الديمقراطيون قصر نظر معاكس. في الشهر الماضي ألقى بيرني ساندرز، المرشح الديمقراطي المحتمل عام 2020، خطابا حول السياسة الخارجية، ذكر فيه الصين مرة واحدة فقط، وكانت ملاحظته لمصلحة الصين. واقترح على الصين والولايات المتحدة العمل معا للتصدي لمسألة الاحتباس الحراري العالمي. كما زعم أن روسيا تمثل التهديد الاستبدادي الرئيس للقيم التقدمية العالمية. صمْت الحزب الديمقراطي حول الصين يتناقض بشكل غريب مع وجهات النظر الأميركية المزعومة فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
الرئيسان الأميركيان السابقان بيل كلينتون وباراك أوباما عرضا رهانات كبيرة مروجين للادعاءات القائلة إنه في الوقت الذي يصبح فيه اقتصاد الصين متكاملا مع الاقتصاد العالمي، سيتزايد الضغط على الصين لكي تصبح أكثر ديمقراطية. الواقع يشير أنه كلما ارتفعت مكانة الصين على الصعيد الاقتصادي، أصبحت قوتها السياسية أكثر صلابة. نادرا ما يقوم الديمقراطيون بتحديث نظرتهم العالمية التي لم تعد موثوقة.
على الرغم من كون اقتصاد روسيا أصغر من اقتصاد الصين، إلا أنه يُنظَر إلى موسكو أنها الخطر الأكبر الذي يهدد أميركا. العديد من المحللين والمراقبين يرون أن ثقافة الخوف من الصين والخوف من روسيا تمتد الآن بشكل أفقي ورأسي وبعمق لتصل إلى قواعد كل من الحزبين الأميركيين. محطة «فوكس نيوز» المُحافظة، ضمّنت برامجها مواضيع تركز على التخويف من تكنولوجيات المراقبة التي تستخدمها بكين، في الوقت نفسه يطغى على الديمقراطيين هاجس مزاعم مصانع تكنولوجيا قرصنة الانترنت وجيوشها في موسكو. في خضم هذه الفوضى، لا تبدو أي إمكانية لأن تظهر سياسة خارجية أميركية متماسكة! وأي مقياس لمصلحة أميركا الوطنية من شأنه أن يتعامل مع الصين وروسيا، على أنهما مصدر تهديدات من قوى عظمى؟ المشهد يشير وكأن أميركا تسير شبه غافلة في عالم من الغموض الجغرافي السياسي ويبدو أن ترامب فهم شيئا: تشكل الصين، أكثر من روسيا، تهديدا استراتيجياً أكبر. وهو لم يحسن التعامل مع هذا التهديد وترامب يقوم بانتقاء المشاكل والمنازعات مع الحلفاء، مثل كندا واليابان، والانسحاب من الشراكة عبر الأطلنطي، فقد رفض تبني المنهج الواحد بالضغط المتعدد الأطراف على الصين. كما أنه اكتسب عداء الهند، التي كانت حتى وقت متأخر تُعامَل على أنها «الحليف الطبيعي» لأميركا. اشترت الهند صواريخ روسية بقيمة خمسة مليارات دولار، واستعانت بروسيا لبناء ستة مفاعلات نووية. كما انسحبت الهند أيضاً من التدريبات العسكرية الرباعية مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا. وهكذا فإن ترامب يخسر الهند، وبالمقابل الرئيس الصيني تشي جين بينغ أدرك أنه بحاجة إلى «تغيير علاقات الصين مع البلدان المحيطة. وأن التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة تمنح العلاقة الدافئة بين الصين واليابان ودول الجوار الأخرى أهمية إضافية، في الوقت الذي تتقارب فيه روسيا والصين، وتنسحب الهند من مدار أميركا، وتتحول الولايات المتحدة إلى الداخل بشكل أكثر من أي وقت مضى، بدلا من السعي إلى التوصل إلى توافق في الآراء حول كيفية التنقل في عالم متعدد الأقطاب، فإن السياسة الأميركية في عهد ترامب تستخدم منازعة الصين وروسيا وكأنها مجرد تدريب على الملاكمة، لتسوية الحسابات المحلية. ذكرت صحيفة «الفاينانشال تايمز» أنه «في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت السياسة الأميركية تعاني سؤالا هو: من خسر الصين؟ واليوم، السؤال هو: من يخسر أميركا»؟ في ظل سياسة أميركا المتصدعة أمام القطب الآخر تصبح الإجابة عن سؤال: «من خسر أميركا»؟ واضحة: هو أن الهيمنة الأميركية ومفاهيم الديمقراطية الأميركية هي التي تخسر ذاتها على حين إن التوافق الروسي الصيني كتحالف جيوسياسي اقتصادي أحدث نوعاً من الصدع الثنائي المزدوج في السياسة الأميركية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن