ثقافة وفن

المولد النبوي.. عادات وتقاليد دمشقية تحبباً وتعظيماً لأكرم الخلق … توفيق المنجد حظي بمكانة خاصة لإنشاده الحسن في المدائح والموشحات

| سارة سلامة

لا يحتفل العالم الإسلامي بمناسبة ولادة النبي محمد بن عبد اللـه عليه الصلاة والسلام باعتباره عيداً أو يوماً عادياً بل يشكل لهم فرحة كبيرة ومناسبة مهمة، تبدأ من أجلها الاحتفالات الشعبية منذ بداية شهر ربيع الأول حتى نهايته، وتقام مجالس الإنشاد وقصائد المدح والدروس التي تتناول السيرة النبوية الشريفة، ويوزع من أجل ذلك الطعام والحلويات، وتعد هذه المناسبة عطلة رسمية في سورية، ويرجع المسلمون الذين يحتفلون بالمولد النبوي إلى النبي محمد نفسه حين كان يصوم يوم الإثنين ويقول: «هذا يوم وُلدت فيه».

طقوس دمشقية
ويمارس الدمشقيون طقوس الاحتفال تحبباً للنبي محمد وتعظيماً ليوم مولده في 12 ربيع الأول من كل عام، ويكون ذلك سواء في المساجد أم البيوت والأسواق والشوارع فنرى الزينة والأضواء تلتحف المدينة ونسمع عند بلوغ كل بيت أو حارة أو مسجد مديح المنشدين، ورقص الدراويش، ونشهد توزيع الحلويات.
ويستيقظ أهالي دمشق صباح عيد المولد على أنغام المدائح النبوية الصادحة ونرى الموشحات الدينية تسمع في كل حارة وبين زواريب المدينة، ويبادر الأهالي في صباح يوم المولد إلى توزيع صرر «الملبس، والمحلاية، والحلويات الدمشقية» التي تتسم بالبياض لحرص الأهالي على ذلك في المناسبات الدينية، وكل ذلك بقناعة ومبادرة تنسجم مع عادات المجتمع وتقاليده.
ونرى الإقبال الكبير في الأسواق وخاصة «البزورية» حيث يشتري الناس «الملبس»، الذي يعتبر من أشهر أنواع الحلويات التي تقدم في ذكرى المولد، ويتشارك الدمشقيون إن كانوا فقراء أم أغنياء في هذا اليوم بشرائها، بينما يتم تحضير طبق «المحلاية»، في المنازل، وتزين الطرقات بالأضواء والأعلام وتلف قطع «الملبس» بأوراق من السولوفان.
وعادة ما يقام الاحتفال بين صلاتي المغرب والعشاء، وبعد إقامة صلاة المغرب يُفتتح المولد بتلاوة قصيرة من القرآن الكريم، ثم تليه فقرة «قراءة المولد»، وهي عبارة عن سرد للسيرة النبوية، التي تصاغ بأسلوب ترتيلي، بعدها تُقدّم فرق الإنشاد المتخصصة بعض الأناشيد الدينية والمدائح النبوية، ويُرقص على أنغامها رقصة «المولوية»، ويُختتم الحفل بإقامة صلاة العشاء وتوزيع «صرر الملبس» وأطباق «المحلاية».

الإنشاد والدراويش
ويمثل الرقص الصوفي «رقص الدراويش»، الذي اشتهرت به الطريقة المولوية منذ قرون، أحد الطقوس الشرقية الفريدة التي حافظت عليها مدينة دمشق، حيث تشكل المولوية أهم فنون الرقص والموسيقا، ويطلق على أتباع هذه الطريقة بالراقصين «الدراويش»، ويصاحب أداءهم للرقص آيات وابتهالات باعتبارها إرثاً دينياً، وهناك مساجد متخصصة لممارسة الطريقة المولوية وتأخذ ثلاث طرق للرقص وهي: «التكية المولوية، والتكية السليمانية، وتكية الشيخ محي الدين»، وللدراويش الذين ينتشرون في أحياء دمشق القديمة رقصاتهم التي يؤدونها في المناسبات، مثل ذكرى المولد النبوي الشريف وليلة الإسراء والمعراج وغيرها من المناسبات الدينية، ولكل مناسبة من هذه المناسبات أناشيد وأدعية خاصة بها.
والإنشاد الديني هو فن غنائي يتناول موضوعات بدأت في زمن النبيّ محمّد، واستمرت إلى يومنا هذا، حيث نجد الكثير ينشدون ويمتدحون النبيّ، ويشتمل الإنشاد الديني على ذكر اللـه والتهليل والتسبيح، وتمتاز دمشق عن بقية المدن الإسلامية بأنها تمتلك خصوصية في الإنشاد الديني من أساليب وطرائق سارت عليها منذ 300 عام، أسسها الشيخ عبد الغني النابلسي، وسار عليها المنشدون الدينيون الدمشقيون، وحافظوا عليها ولو أتى من أضاف عليها إلا أنها كانت إضافات قيمة وبقيت ضمن نهجها الأساسي حتى أصبحت أحد ملامح مدينة دمشق.
والتذكير هو نوع من الإنشاد الديني يؤديه المؤذنون على مآذن مساجد دمشق قبل أذان الظهر يوم الجمعة، ويبدأ بعبارة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ثم الصلوات على النبي، وتتخللها أبيات من الشعر في مديح الرسول محمد، وعادة ما يذاع قبل أذان العشاء ليلتي الإثنين والجمعة، لأن يوم الإثنين ولد الرسول محمد، ولخصوصية يوم الجمعة عند المسلمين. ‏‏

المنجد والإنشاد
وأشهر من أنشد في الشام هو الراحل توفيق الكركوتلي المولود في دمشق عام 1909 بحي القيمرية، ولقب بـالمنجد لأن والده كان يحترف مهنة التنجيد، وغالباً ما تشاع مدائحه النبوية وأناشيده الدينية مع اقتراب شهر رمضان المبارك وعند السحور وفي المولد النبوي، وذاع صيته في أوساط دمشق حتى لُقب المنشد الراحل بـبلبل الشام، وحظي بمكانة خاصة في قلوب الدمشقيين، لإنشاده الحسن ولصوته الجميل في المدائح النبوية والموشحات، وصار يلبي الدعوات مع فرقته الصغيرة لإحياء الموالد والأفراح في دمشق وريفها، وغدا في سنوات قليلة المنشد الرئيس في حلقات الفرق الصوفية، ولاسيما المولوية منها التي كانت قاعات مسجدها تغص بالناس للاستماع إليه في حلقات أذكارها، وظل المنجد رئيساً لرابطة المنشدين في سورية حتى وفاته.
ولم يتلق المنجد الفن من أحد، بل تلقى دراسته الابتدائية في مدرسة الإسعاف الخيري، واشتغل بعدة صناعات إلى أن استقر بمهنة والده التنجيد، وكان جو أسرته ومحيطها يدفعانه إلى الغناء، حيث اكتفى بما أخذه من والده الفنان من القطع الغنائية الخفيفة، ومن خلال احتكاكه المبكر بـالجامع الأموي القريب من دكان أبيه، والصلاة فيه، واستماعه إلى تجويد القرآن الكريم، والمدائح النبوية التي كانت تقدمها بعض الفرق الخاصة في شهر مولد النبي الكريم، وإعجابه بصوت أبيه الذي كان يصدح بالأذان من مئذنة الأموي في أوقات الصلاة أحياناً، كان ذلك من أهم الأسباب التي جعلته يفكر جدياً باحتراف الإنشاد الديني.
وافتتن المنجد بألحان المرحوم الشيخ سيد درويش وموشحاته التي حفظها بإتقان، فكانت عماد وصلاته الغنائية التي كان يؤديها مع فرقة صغيرة من العازفين والمنشدين الهواة، فتعلم من الأسطوانات سبعة أدوار من ألحانه، وأخذ من كل نغمة وصلة من الموشحات البديعة، ثم دخل المعهد الموسيقي الشرقي وكان منشد الحفل الذي أقيم على مدرج الجامعة السورية تصاحبه فرقة مؤلفة من خمسين عازفاً، فكان يرتجف من رهبة الموقف وغنى فيها مونولوج: (دمعي اشتكى من أوجاعي وخف نداه)، وهو من ألحان الموسيقار كميل شمبير، وطرب له الشيخ تاج الدين الحسني -الذي كان رئيس الدولة السورية آنذاك- فطلب منه إنشاد قصيدة (يا ليل الصب متى غده)، فبهر بسحر صوته وحسن إنشاده، كما تميز المنجد بصوت روحاني بعيد عن الغنائي والطربي، وتصدر الإنشاد زمناً طويلاً في كل المناسبات الدينية والأعياد لأكثر من ستين عاماً حتى بات منشد دمشق الأول، لفت الأنظار بأدائه وحضوره، فأصبح من الصعب أن تمحى أناشيده من ذاكرة الدمشقيين.
وكان أول نظم له في الشعر والتلحين موشح نبوي من نغمة الزنجران جاء فيه: (يا راحلينَ يمَّ المصطفى، بلِّغُوا سلامِي إلى الحبيبْ – نارُ قلبِي لنْ تنطفِي، إلا أن أزورَكَ يا حبيبْ).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن