ثقافة وفن

«كما الشمس لا تغيب هي سورية» … مرور سنة على رحيل العلامة الدكتور عفيف البهنسي … إياد بهنسي: ما أضاع والدي لحظة من حياته إلا وقضاها في عمل مجد

| سوسن صيداوي- ت: «طارق السعدوني»

يرحلون عن دنيانا، يفارقونا بالجسد، لكنهم باقون بالروح وبالفكر وبالإبداع. رحل رجل الموسوعة ومؤتَمن الحضارة السورية د. عفيف البهنسي منذ عام، مودّعاً بين أيدينا أكثر من كتاب منحه من نفسه كلّ الوقت، وكلّ الجهد، وكلّ الاهتمام، وكلّ الدقة في البحث وفي طرح المعلومة، لأنّ رسالته من أبحاثه أن تبقى الأجيال السورية القادمة على عهد الوفاء والتمسك باستمرار الحضارة السورية، حضارة النور والأبجدية والموسيقا. إذاً لمناسبة مرور سنة على رحيل الباحث العلامة الدكتور عفيف البهنسي نظمت وزارة الثقافة حفلا تأبينيا، تخلّل توقيع كتاب أصدرته مؤسسة«وثيقة وطن» جاء بعنوان: «مذكرات عفيف البهنسي» قام بتأليفه الناقد التشكيلي سعد القاسم، وذلك في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق.

وكان الحفل تضمن معرضاً لسلسلة من الكتب العديدة التي ألفها الراحل باللغة العربية وباللغات الأجنبية، إضافة إلى عرض بعض من أعمال تشكيلية كان قد رسمها.
هذا إضافة إلى عرض فيلم وثائقي من إعداد ابنته يولا البهنسي، يستعرض مسيرة والدها الحافلة والغنية بالعديد من الإنجازات على مستوى سورية والعالم، من حيث تأسيسه للعديد من المتاحف في سورية، وحملات التنقيب واكتشاف المواقع الأثرية، مع إعداده للدراسات والأبحاث الأثرية والعمرانية التي أغنت المكتبة الإنسانية في العمارة والفنون والتاريخ، مع استعراض مهامه والمناصب التي تسلّمها مسخراً نفسه في خدمة سورية الوطن والإنسان.
وأخيراً الجدير بالذكر أن الحفل حضره كل من وزير السياحة بشر اليازجي، ومعاون وزير الثقافة علي المبيض، وعدد من مديري المؤسسات الإعلامية والثقافية وحشد من المثقفين والكتّاب والمهتمين.

لم تخنه بصيرته
تطرق د.علي القيم في كلمته إلى الكثير من الصفات الشخصية التي تمتّع بها العلامة د.عفيف البهنسي، صفات جعلت منه رجلا محبوبا ومقربا من الجميع، فهو محبّ ووفي وصادق، وحسّه بالمسؤولية تجاه العلم واضح، حيث يلبي دعوة كل من هو راغب بأن يزيد من علمه وخبراته، فلا يتواني لحظة عن مساعدة كل من يطلبه باذلا كل مجهود وكل وقت، ويتابع القيم «د. البهنسي كان باحثاً شمولياً، لم تخنه بصيرته حتى آخر أيام عمره، ترك مآثر حافلة في تاريخ العلماء والباحثين والأدباء، كان مدافعا عن العقل وعن كبرياء السوريين وعن الحقيقة في ظل اغترابها، فتح نوافذ عديدة في زمن كان فيه هناك من حاولوا أن يسدّوا كل بصيص أمل».

مراحل وجلسات التوثيق
تحدث الناقد التشكيلي سعد القاسم وهو معد كتاب «مذكرات عفيف البهنسي» في كلمته بداية عن الجلسات التي استبقت المباشرة بالكتاب، والتي جمعته مع الدكتور عفيف في بيته، والتي دارت حول نشأته وبداياته الفنية والمهنية، وما تتضمنه من ذكريات شخصية ومعرفية، وفيرة عن المراحل المتتالية من تاريخ سورية وأشخاصها «وكنت أسعى لأحفظ ذلك في ذاكرتي من دون تدوين أي ملاحظات سواء بالقلم أم بآلة التسجيل، لقناعتي أن وجود أي منهما يفقد المتحدث طلاقة الحديث وعفويته، ثم كنت أقوم بعد ذلك بتدوينها، واستدراك ما غاب عن ذهني منها في الجلسة التالية. بعد بضع جلسات سألني عن رؤيتي للكتاب فأجبته أني أرغب أن يكون على شكل سردٍ روائي، فوافق من دون حماسة واضحة، وبدأنا بتسجيل مقاطع متفرقة من النص، وتحديداً تلك التي تتضمن أرقاماً وتواريخ، وأسماء أشخاص ومواقع. وقطعنا مرحلة مهمة في درب الإنجاز، ولما أشرفنا على آخره وجدنا نفسنا أمام مفاجأة غير متوقعة، وغير سعيدة. كانت مؤسسة وثيقة وطن قد بلورت بعد وقت طويل من بداية العمل في الكتاب تصوراتها التفصيلية عن شكل إصداراتها، وكانت هذه التصورات تعتمد بشكل كلي على التسجيل الصوتي الكامل للقاء مع الضيف. فعدنا للعمل منذ البداية، غير أن أسلوب السرد الروائي لم يعد فكرة قابلة للتحقيق، ذلك أن دوري أصبح إعلامياً تماماً يقتصر على طرح الأسئلة وتسجيل الأجوبة، ثم إعادة صياغتها بما يحررها من العيوب السردية، وعثرات الذاكرة».
مضيفاً د. سعد: إنّ د. عفيف البهنسي كان شديد الإلحاح على موعد إنجاز الكتاب «وهو أمر غير مستغرب نظراً لحيويته الاستثنائية التي يعرفها كل من عمل معه، ولسرعته في الإنجاز، وكثيراً ما كان يتبع ذلك بالقول:أريد أن أرى هذا الكتاب قبل أن أموت».
ثم تطرق د. سعد إلى المشكلة التي واجهت مؤسسة وثيقة وطن من حيث حجم الكتاب، فقد كان عدد الصفحات أكثر بكثير مما تريد، مشيراً إلى أنه تم الاتفاق على إحالة بعض الفصول إلى الموقع الإلكتروني للمؤسسة. وعن رضا الدكتور عفيف البهنسي عن الكتاب وخاصة أنه رحل عنا قبل أن يراه، يضيف د. سعد القاسم «لما سألتني ابنته الفاضلة السيدة يولا عما إذا كان الراحل سيكون راضياً عن هذا الكتاب لو رآه أجبتها برسالته الأخيرة لي بعد تدقيقه النسخة النهائية للكتاب وكتب فيها حرفياً:
عزيزي الأستاذ سعد: أشكرك على تسديد التصحيحات التي أرسلتها لك وليس من ملاحظات إضافية على الكتاب. وأتمنى أن يتم تنفيذ الخطة التي عرضتها لإنجاز الكتاب بسرعة اختصارا للوقت الذي أخشى من نفاده. شاكراً لك جهودك لإنجاز هذا الكتاب الذي أراه أطروحة جامعية تستحق أنت مكافأتها».

أهدى مكتبته الخاصة إلى مكتبة الأسد
من جانبه أشار مدير عام مكتبة الأسد الوطنية إياد مرشد في كلمته إلى أنّ الموت حق وصحيح أنه يغيّب عنا الأشخاص، إلا أنهم يبقون حاضرين بيننا، كيف إذا كانوا مثل د. البهنسي فهو رجل يبقى له حضوره الخاص بيننا إبداعا وعلما، ويضيف مرشد عفيف البهنسي باق معنا بأبنائه، بإبداعه، وبما قدمه للمكتبة العربية من أبحاث أغنت الحياة الثقافية والفكرية والفنية العربية عامة والسورية خاصة. هو ليس من العابرين في حياتنا الثقافية، بل إنه واحد من صنّاع الإبداع والجمال، قلائل من يسهمون في هذا العالم في صياغة لوحة الجمال الذي يشوّه يوميا بالقبح، ويعاد تشكيل معالمه بالدمار والخراب، وبتجريد الإنسان من إنسانيته. تحدث الكثيرون عن عفيف البهنسي ومجالات إبداعه، وسأوجز كلمتي بأنه رجل عطاء: أعطى الحياة حقها.. وأعطى بلاده سني عمره.. وأسهم إسهاما فاعلا في إماطة اللثام عن الكثير من حضارتنا وتراثنا المعماري والهندسي العريق. وتوّج هذا العطاء بأنه قام (في حياته) بإهداء مكتبته الخاصة إلى مكتبة الأسد الوطنية. معبراً عن أسمى حالات الجود.. فمكتبة المبدع بيته الفكري، وهي تعب العمر المنقوش بالسهر والقلق والإبداع. فللراحل الباقي.. عفيف البهنسي كل الشكر والعرفان لما قدمه في حياته والسلام لروحه الطاهرة، ولأسرته الكريمة ولمحبية الكثير العزاء».

إعجاز إنساني بأرقى صوره
اعتبر الدكتور إياد البهنسي في بداية كلمته -كلمة أبناء الفقيد- بأنه عندما يكون المرء مسؤولاً ويحمل همّ أمته وتراثها وتاريخها وأهلها وهو في سن التسعين من العمر، على الرغم من المشقة التي يعوق بها سبل الحياة المرض اللئيم مرض السرطان، فهو إعجاز إنساني بأرقى صوره. ويضيف حول نمط وروتين حياة الراحل اليومي «ما أضاع عفيف البهنسي لحظة من حياته إلا وقضاها في عمل مجدّ، فمنذ بزوغ الشمس كان يخرج كل يوم إلى شرفته ليصبّح على غرسات الياسمين المزروعة وليسقيها من قلبه حباً، ثم يحاول أن يحرّك جسده الذي أتعبته السنين، ماشيا بخطوات وطيدة ذهابا وإيابا من على شرفته، ثم يجول بنظره على لوحاته وقد أعطى لكل واحدة منها اسماً مرتبطاً بما حدث من حوله، فواحدة اسمها الضمير، وأخرى السلام، وتليها الهجرة والحرب، ثم الولادة والأم والشهيد وأم الشهيد».
وحول الصفات الشخصية التي يتمتع بها الراحل يتابع بأنه كان رجلاً رحيماً، يؤمن بالثواب أكثر مما كان يؤمن بالعقاب، وقد كرّس حياته لدعم الآخرين والوقوف معهم، وكان يبحث عن الفرصة في تقديم النصيحة والكلمة الطيبة، ويقترح على المسؤولين تقديم جائزة أو شهادة تقدير أو منحة لمن يستحق. فيضيف: «كان شغوفاً في الاستماع إلى طلاب الدراسات العليا في كليتي الفنون الجميلة والهندسية المعمارية من جميع الجامعات، الذين كانوا يطلعونه على أطروحاتهم فيجلس معهم بالساعات لمناقشة أفكارهم، وكان يعتز كثيرا بأولئك الطلاب النجباء الذي يسبرون الغوص في الأفكار والمراجع ويرى فيهم صورة سورية القادمة والأجمل».
وأشار د. إياد أيضا إلى أنّ والده كان على أثر وصدمة العالم بغزو تدمر، وإعدام الإرهابيين لزميل عمره وابن تدمر الأستاذ خالد الأسعد، تلقى العديد من الاتصالات من محطات الإعلام العالمية، ولكن في لقاء هاتفي مع الـBBC قال الراحل: «إن الحضارة ليست عبارة عن كلمة بل هي هذا التراث المجسّم الذي تمتلكه، فمدينة تدمر ليست حكاية ولا أسطورة، بل هي حاضرة لا مثيل لها في العالم، ونحن نعرف جيداً الآن من خلال التنقيب والكشوفات الآثارية، أننا نحن الذي صنعنا الأبجدية الأولى والكتابة والموسيقا القديمة، ونحن من صنع أقدم منزل في التاريخ الذي يعود إلى 12ألف عام». خاتماً بأن العلامة البهنسي لم يهدأ وبقي متابعا اتصالاته بعلماء الآثار في المديرية العامة للآثار والمتاحف، ليتأكد من أن الصور الثلاثية الأبعاد التي أُخذت عن تدمر والتي بدئ العمل بها ما زالت موجودة، مستعلما أيضا عن أخر التطورات في ترميم الآثار وليُطَمئن الدنيا بأنه «طالما ذرات الحجارة ما تزال تلتئم، برمال تدمر فلا خوف، لإنها سترفع وتعود لمجدها التليد.. كما سورية كلّها».

مذكرات عفيف البهنسي
تم في نهاية حفل التأبين توقيع الكتاب الذي حمل عنوان: «مذكرات عفيف البهنسي» وهو باكورة إصدارات مؤسسة وثيقة وطن، وعن تكليف مؤلف الكتاب د. سعد القاسم يتحدث في التمهيد: حين طلبت مني السيدة الدكتورة بثينة شعبان الأمين العام لمؤسسة (وثيقة وطن) أن أقوم بإعداد هذا الكتاب ضمن سلسلة من الكتب التي تزمع المؤسسة إصدارها تكريماً للأعلام الذين أسهموا في تطوير وتفعيل ثقافة الوطن، استعادت ذاكرتي في لحظات كل الذكريات السابقة، والكثير غيرها، كان التكليف في واقع الحال مفاجأة سعيدة، تحولت إلى مشاعر اعتزاز عميقة. عندما أخبرتني الدكتورة بثينة أن الدكتور عفيف هو من اقترح اسمي حين مفاتحته بالمشروع، وآمل الآن أن يكون المنجز على قدر الثقة، وقد سعيت مدفوعاً بكل المشاعر الطيبة التي أحملها لأستاذي العريق، وبكل الإحساس بالمسؤولية الثقافية الوطنية، أن أحيط جوانب تجربته الثرية جميعها على خلفية واقع الحياة السورية، وقد استلزم الأمر، إضافة إلى قراءة عدد كبير من النصوص والحوارات، جلسات تسجيل في بيته بشارع الروضة الذي يعيش فيه منذ عام 1970 مع أسرته، والذي يتضمن مكتبته العامرة، ومرسمه المملوء باللوحات الفنية. كان حوارنا الذي استمر بضعة شهور شكلت بحد ذاتها ثمرة هذا الكتاب الذي أطلق عليه عنوانُ منسجمُ مع أهدافه:(وثيقة وطن.. من تراث عفيف البهنسي). ولقد سعيت أن أعرض أجوبته بالصيغة التي تحدث بها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن