ثقافة وفن

آنيخدوانا… أول شاعرةٍ في العالم وقّعت شعرها باسمها

| أحمد محمد السح

يُكتبُ هذا اللقب آنيهدوانا كما يُكتبُ آنيخدوانا، لأن حرفي الهاء والخاء، حرفانِ حلقيان لم تكُن اللغة الأكادية المكتوبة قد وصلت إلى مرحلةِ رقنهم وكتابتهم بعد، هذا اللقب معناه «الكاهنةُ العليا زينةُ السماء» وقد منحه سرجون الأكادي مؤسس الإمبراطورية الأكادية أول مرةٍ لابنته التي لا نعرف اسمها الحقيقي، كما أننا لا نعرفُ الاسم الحقيقي لسرجون أو شيروكين نفسه، فهو لقبٌ أيضاً ومعناه «الملكُ المكين». تذكر المعلومات التاريخية أنها الوحيدةُ في أسرتها لثلاثة إخوةٍ ذكور هم «ريموش ومانشتوسو وآمال آشكال» تولّى اثنان منهما الحكم بعد أبيهم، وبقي الثالث خارج الحكم والذكر التاريخي لأسباب مجهولة.

تقدمت فتوحات سرجون الأكادي الذي استولى بمعركة حاسمة على الحكم السومري حين قضى على لوكال زاكيزي موحّد المدن السومرية، وأسس سرجون لنفسه مدينةً هي آكاد وأطلق على نفسه لقب «ملك سومر وأكاد» هذه الفتوحات أغرتُه بملء بلاده بالثقافة والحفاظ على الإرث المعرفي السومري وتطويره، وتشجيع ابنته آنيخدوانا التي أولعت بالشعر والتراتيل الدينية مبكراً حتى قالتها فكانت شاعرةً وكاهنةً لعبت دوراً سياسياً مهماً حين ولاها والدها كهانة معبد الإله سين (القمر) في مدينة أور السومرية في الجنوب، هذا الذي تسبب بصدمةٍ للناس وتحديداً مع انحسار دور المرأة في مرحلة السلالات السومرية الأولى بعد حادثة الطوفان التاريخية العظيمة، وانقضاض الذَّكر على السلطة بمختلف تنوعاتها، ولقد تسلمت آنيخدوانا هذه الكهانة واستطاعت بذكائها وقوةِ والدها أن تضبط غيظ الجنوبين في البلاد (مدن العراق الجنوبية) وتكون المؤثر الأساسي فيهم كسلطة دينية واجتماعية باتت أقوى من حكام المدن والمقاطعات الذين يمثلون السلطة السياسية.
عاشت آنيخدوانا في ظل حكم والدها الذي حكم ستاً وخمسين سنة، وعاصرت أخويها ريموش ومانشتوسو، ومن ثم ابن أخيها نارام سين بن مانشتوسو الذي وقع الخلاف بينها وبينه، وتقدر عدد سنوات حياتها بـستٍ وسبعين سنةٍ تقريباً (2300- 2225 ق. م)، وتقول المصادر إن لديها اثنتين وأربعين أو خمساً وأربعين قصيدة وترتيلة، كان من الصعب التعرف إليها لولا الجهد الذي قام به الباحثان دايانا وولكشتاين، صموئيل نوح كريمر اللذان أصدرا كتاباً مهماً هو ( إنانا ملكة السماء والأرض) يحفل بالنصوص التي تنسب أغلبها لآنيخدوانا، ويعود السبب في أن آنيخدوانا عملت على جعل الإلهة إنانا (عشتار) هي الإلهة الأهم للناس والأكثر قرباً إليهم مع تنوّع السلالة الإلهية والمعتقدات في عصر سرجون الأكادي، وقد قرنت نفسها بها في شعرها ومنحت لنفسها صفاتٍ متداخلة بينها وبين إنانا وهذا ملاحظ في نص عنونه الباحثان باسم (سيدة المساء) وتقول فيه:
(في نهاية اليوم
النجمةُ المشعةُ
المصباح العظيم الساطع في السماء
كل الشعوب فوق كل الأراض ترفع العين إليها
يظهر الرجال أجسادهم وكذلك النساء
يخور الثور في الوتد إليها
هناك فرحةٌ عظيمةٌ في سومر
الصبي غازل حبيبته
السيدةُ أعجوبة السماء الحلوة تنظر
تزهي شعوب سومر أمام إنانا المقدسة
إنانا سيدة السماء
سيدة المساء
الضوء الباهر
أغني ثناءكم إنانا المقدسة
سيدة المساء تشعُّ في الأفق)
تحفل الأساطير التي وصلت من الرقم الطينية بالملاحم والأساطير التي تذكر تفاصيل المدن السومرية والأكادية وعلاقات الآلهة بالبشر، لكننا حتى اليوم لا نعرف مكان مدينة آكاد بالضبط رغم محاولات الكثير من المنقبين والباحثين تحديد موقعها، من أمثال خزعل الماجدي، وفوزي الرشيد، وطه باقر وسواهم وهم أئمة البحث العلمي في الميثولوجيا والأسطورة وتاريخ المنطقة الحضاري، لكن الفقد الذي حصل باختفاء مدينة أكاد يجعلنا نفتقد النصوص والرسوم والتماثيل والبناء العمراني الذي كان يمكن أن يعطينا صورة أكثر تفصيلاً عن الدولة الأكادية، التي تقتصر معلوماتنا عنها بما قدمته لنا الدولتان الآشورية والبابلية اللتان أنشئتا بعدها، واللغتان الآشورية والبابلية هما لهجتان من اللغة الأكادية التي تحولت في عصر سرجون الأكادي إلى اللغة الدبلوماسية الأولى في العالم، كما هي اللغة الإنجليزية اليوم مثلاً، وهذا ربما الذي دفع آنيخدوانا إلى توقيع الرقم الطينية التي كتبت عليها شعرها باسمها هي، وهي عادة لم تحصل قبلها، لأن الشعراء لم يكونوا يوقعون شعرهم بأسمائهم وخاصةً الشاعرات، وكان العرفُ أن النَّساخ فقط هو الذي يوقع اسمه على كل نسخةٍ ينسخها ليتلقى أجره قبالة كل نسخة موقعة، لكن آنيخدوانا ساعدتنا بهذا التوقيع للحصول على ثورة في الطبقة الاجتماعية والشعر النسائي لم تسبقها إليه واحدةٌ قبلها. ولقد وجد لها أشعار إيروتيكية تسبق أي قصيدة من هذا النوع فيها الغزل المباشر بجسد الحبيب، ودعوة لتلاقي الجسدين لأن الفهم الأكادي للحب هو لقاء بين الإله الذكر آنو (إله السماء) والإلهة الأرض (كي) وبماء السماء يرتوي عطش الأرض فتخصب وتنتج، وهذا ملخص للرمز الشعري المستخدم في القصائد والملاحم الشعرية والأساطير.
وقد عملت آنيخدوانا على التهليل للإله إنليل (إله الهواء) وإسباغ صفات عليه لم يكن قد وصلها من قبل ومنها ما تقوله في هذه الترتيلة:
(دون إنليل، الجبل الكبير
لن تقام المدن ولن ترفع البيوت،
ولن تبنى الحظائر ولن تشيّد الزرائب…
ولن يحملَ الفيضانُ الغمر المبارك…
والبحر، لن يمنح كنوزه السخية!
ولن تأتي أسماك البحر لتضع بيوضها في وسط المستنقع.
ولن توزع طيور السماء أعشاشها على الأرض الفسيحة!
وفي السماء، لن تفتح الغيوم المحملةُ بالمطر ثغراتها!
ولن يثقل الحصاد الوفير، الحقول والمروج!
ولن يزين بعد ذلك السهوب، العشب والشجيرات!
وفي البساتين، فإن أشجار – الجبل الكثيفة لن تحمل ثمارها…)
هذا الإله الذي كان مقدساً عند الأكاديين أكثر من غيره ربما الإله الذي حطم نارام سين معبده في مدينة نيبور (نفر) لأنه لم يستجب له، وطرد عمته آنيخدوانا من معبدها ليسلم المنصب لواحدةٍ من بناته وينفيها إلى الصحراء، ويقال إن لعنة أكاد المشهورة سببها غضب الإله إنليل ودعوات آنيخدوانا الصادقة على نفيها الظالم وهي في أواخر عمرها، ولربما تعود عدم شهرة اسم آنيخدوانا إلى محوٍ متعمّد من قبل ابن أخيها نارام سين الذي تسبب ابنه الذي حكم بعده بتفتت الإمبراطورية الأكادية التي ورثها عن جده، ومن لعن أكاد هذا الجزء الذي طول لصفحات:
(عسى أن تردد أسواركِ صدى الندب والبكاء والنواح في أرجائكِ
عسى أن تتهدم تماثيل الآلهة وتسقط على الأرض كما يترنح شابٌ يافعٌ ترنح من الخمر.
عسى أن يعود طينك إلى مياه العمق.. الآبسو
عسى أن يكون طيناً ملعوناً من إنكي.
وعسى أن يعود قمحكِ إلى أخاديده وعسى أن تلعنه الإلهة أشنانا
عسى أن يذبح ذباح الماشيةِ فيكِ زوجته
عسى أن يذبح قصابكِ أولاده
عسى أن يجرف الماء فقيركِ)
تظهر هذه اللعنات الكثيرة مدى القهر الذي قاله قائلها، هذه اللعنات موجودة في ملحمة جلجامش، وموثقة في رقم بابلية، لذا قد يكون أنها ليست لآنيخدوانا، لكون جلجامش سبق سرجون الأكادي بحوالي مئة وخمسين سنة، ولكن ألا يمكن أن تكون الملحمة كتبت بعده وحدث اختلاط، فنسبت بعض النصوص للملحمة أو نسب بعضها لآنيخدوانا، كل هذا ممكن، فالاختلاط يحدث في عصرنا التكنولوجي الحديث فكيف ونحن نتحدث عن خمسة آلاف سنة من اليوم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن