ثقافة وفن

سيران دمشقي.. دعوة إلى التحابّ والإخاء

| منير كيال

ها قد حل الربيع، وأخذت الأرض زخرفها بما لها من البهجة والإشراق، بزرع وأشجار، وما لها من رياض يأنس إليها الإنسان، ويجد بها الأمان والراحة باطمئنان، وهدوء بال، من أعباء الحياة، فكان من السيرنجية من يجعل سيرانه بطرف طاروق (ممر) تنساب إلى جوانبه، يثلج خرير مياهه النفس ويجعلها تستسلم إلى ما حوله من أنعام تجود بها أغصان الأشجار، وخيرات تقدمها الأرض من الخضار والمقبلات من أشكال وألوان، لكل قاصد أو راغب البعد عن متاعب الحياة، ونوازع الإنسان لما يشاهد، أو يطمح الحصول عليه، حتى لكأن هذا المكان أو ذاك من أرض السيران يقول لهذه الجماعة أو تلك من السيرنجية جئت أهلاً، ووطئت سهلاً.

فالمكان الذي يقصده الناس للسيران، لا يعرف غير التأهيل والترحيب، بكل قادم من السيرنجية، من أين قدموا، وما هم عليه من ترف الحياة أو بساطتها، بل مهما بلغ عددهم، فالمكان للجميع، وهو من عطاء الله للإنسان.
شدني إلى ما ذكرت، ما كان عليه أهل دمشق، بتوادهم وتواصلهم وتراحمهم، وما هم عليه من إيثار وتحاب وعطاء، حتى إن الواحد منهم لم يكن يشعر بالخير والراحة.
ما لم يكن جاره أو صاحبه بخير، وبحبوحة من العيش، ومن ثمّ فإنه يشعر بالألم والضيق إذا كان صاحبه أو جاره على نحو من غير ذلك من مكروه يعكر صفو حياته.
ذلك أن ما نحن عليه بدمشق بل بكامل سورية من أحداث وأزراء، إنما هو من الأباطيل الخارجة عن إرادتنا والبعيدة عما نحن عليه من تحاب وإيثار، بل هو تلبية لمطامع العدو الإسرائيلي ومن والاه، ممن يطمع بموقع سورية وخيراتها.
فالسيران والحال هذه، إنما هو سيران الإنسان مع نفسه ورضاه عنها، بتعامله مع الآخر، فيتمنى له ما يتمنى لنفسه، فالأرض للجميع، والوطن للجميع، والجنة بلا ناس ما بتنداس، ما يذكرنا بقول الشاعر:
لو أني حُبيت الخلد فرداً
لما أحببت بالخلد انفرادا
بالسيران.. كنت ترى كل جماعة من السيرنجية، اتخذت لها مكاناً حجبت به نفسها عن أعين الحشريين، بسواتر قماشية، لسيران دمشقي، قلّ أن يعيش المرء أهنأ منه.
الجميع بهذا السيران بشغل شاغل، هذه تعد السلطة وتلك تقشر الباذنجان والبطاطا، ومنهن من تخرط الكوسا والزهرة (القرنبيط)، لقليها، وقد عمد الأب إلى إيقاد النار اللازمة لذلك، بعد أن قام الأولاد بجمع ما يلزم ذلك من أخشاب وقشاقيش لإيقاد النار بها.
ولم يكن الناس بسيرانهم بحاجة إلى طاولات وكراسي، فالأرض تتسع للجميع، ويكفي أن تتحلق كل جماعة من السيرنجية، حول مدة أو قطعة من المشمع، وضع عليها الطعام ليناول الجميع طعامهم بهناء وسرور ولذة وشهية، وكان من الطريف أن تشتهي واحدة منهن، سيدة أخرى تتناول معها الطعام نفسه، فتقوم هذه السيدة بمناولة سيدة ثانية تتناول معها لقمة من ذلك الطعام قائلة:
تقبريني.. والله اشتهيت لك هذه اللقمة.
وقد عايشت ذلك بنفسي يوم كنت مع عائلتي بسيران بمنطقة المرج، بالعقد الخامس من القرن المنصرم (العشرين)، وقد حضرت جماعة أخرى من السيرنجية، جلست بالقرب من مكان جلوسنا.
ولعل من أمتع ما بالسيران، قيام السيرنجية المجاورين بسيرانهم بتساكب طعام بعضهم بعضاً، خوفاً من أن تكون واحدة منهن بمرحلة الوحام من الحمل وتشتهي طعام الآخرين المجاورين.
وكان من المألوف، إذا صادف صاحب أرض بستان أو مستثمر ثمار هذا البستان، أناساً يقومون بسيرانهم عنده، أن يبادر إلى الترحيب بهم، وتقديم ما يتوافر بالبستان من ثمار الخضار ومن ثمار الأشجار، حباً منه وكرامة ثم يترك لهم حرية الإقامة، فلا يسمح لأحد من أهله أو العاملين ببستانه الاقتراب منهم، حتى يأخذ الجميع حريته بسيرانه، فالضيف ضيف الله.
فالسيران سيران الإنسان مع نفسه، ورضاه عنها بتعامله مع الآخر، وأن يتمنى له ما يحب لنفسه.
ولم يكن السيران إلى الربوة أو المقسم والشادروان، والغياض أقل متعة من السيران إلى بساتين ورياض الغوطة.
فقد كان السيرنجية يتوافدون إلى هذه الأفياء من جوانب نهر بردى وفروعه جماعات جماعات، فيعتلون التخوت والمصاطب التي على ضفاف المياه، بدمر والهامة والجديدة، وعين الخضراء ونبع بردى فضلاً عن الربوة وما جاورها بسرور بالغ ونشوة عارمة، ويقضون أوقاتاً ممتعة بأحضان الطبيعة، بين الماء الوفير، والخضرة اليانعة والظل الظليل، وهذا الوضع لا يتعارض بحال من الأحوال مع السيران إلى أراضي غوطة مدينة دمشق، فلكل منهما أوانه وزمانه، فالسيران إلى رياض الغوطة غالباً ما يكون بفصل الربيع، أما سيران فصل الصيف وبعض أوقات فصل الخريف، فغالباً ما يكون بأنحاء الربوة والمقسم والشادروان والمناطق الأخرى التي على أطراف وادي نهر بردى وغياضه، وبالطبع فإن ذلك لم يمنع أن تقوم جماعات من السيرنجية بسيرانها إلى الغوطة بفصل الصيف أو الخريف، وخاصة لسكان المناطق القريبة من الغوطة.
والأهم من هذا كله هو سيران الإنسان مع نفسه كما سبق وأشرنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن