اقتصاد

يقظة «شنشار»!

| علي محمود هاشم

لم تكن المواجهة المسلحة التي خاضتها الجهات المختصة في حلب مع شبكات المهربين مؤخراً خارج المتوقع، فلا تزال تلك المواجهة الشاملة مع هذه الجريمة الاقتصادية في تسعينيات القرن الماضي، راسخة في ثنايا الذاكرة.
لـ «إضافة حلب» مذاق معنوي مرّ، فعلى بعد مئات الأمتار فقط من نقاط الجيش المتقدمة في مواجهة مرتزقة سوريين وأجانب (يجاهدون) لإعلاء صوت القومية التركية، يصعب على المنطق تبرير مواجهة مسلحة مع مهربي المنتجات التركية التي تجعل اليد التركية العليا في اقتصاد السوريين، وفي مقدمهم الحلبيون ممن دفعوا ما دفعوا في مواجهة متجددة مع تاريخية اللصوصية العثمانية الشهيرة منذ ما قبل «السفربرلك».
دعك من مفارقتنا الأخلاقية بقبولنا دفع الثمن مرتين، فعلى الصعيد الاقتصادي، أسمعتنا أصوات مواجهة حلب مع التهريب أنين اقتصادنا الوطني الذي يكاد يصمّ الآذان جراء جراحه العميقة بعدما أثخنتها بعائدية التهريب التي بات يستحق حجمها، من وجهة نظر المهربين، مواجهة مسلحة مع السلطات الوطنية داخل شوارعنا!
في (اجتماع شنشار) يوم الأربعاء الماضي، أجزل وزير المالية في توصيف مفارقتنا الاقتصادية المديدة مع (التهريب) منذ أن استسلمنا لذلك البناء العنكبوتي الذي ابتدعه التجار حول (صورة الأسواق المشرقة) و(مكافحة كبار المهربين.. لا صغارهم) منعاً للسلطات الجمركية من مكافحة التهريب في منافذ تصريفه، ومعها ثالثة الأثافي، حين أكمل التفهم الحكومي رسم (صورة الاقتصاد المظلمة).
في «شنشار»، أشرقت الشمس بالفعل فاضحة أسطورة «الأسواق المشرقة»، ومع إعلانه العودة عن قرار إقالة سلك الجمارك من مهامه في مكافحة التهريب في منافذ بيعه، أعاد وزير المالية تذكيرنا بأن البيان الوزاري لم يدفن بعد، كما لخص باقتضاب أضراره الرئيسية: «فوات الرسوم والضرائب، ضرر أكبر ينال الإنتاج الوطني وسعر الصرف».. وفي الواقع، هذه الأقانيم الثلاثة التي تجسد الإنتاج والاستهلاك.. هي الاقتصاد كلّه، أو جزؤه الحقيقي على الأقل!
وقف العمل ببدع (الأسواق المشرقة وكبار المهربين وما شابهها من ترهات لطالما شكّلت شبكة حماية كتيمة لعائدية التهريب عبر حماية قنوات تصريفه) يعني وقف مهزلتنا الاقتصادية، إذ إنه، وامتثالاً لقانون الإنتاج المشروط بالاستهلاك، فما من طريق لقمع عائدية التهريب أنجع من دق عنق منافذ بيعه، فكما أن الاستهلاك هو السبب الأوحد للإنتاج، فكذا التهريب ما أن تجفّ مساربه إلى السوق حتى تنتفي الحاجة إلى (إنتاجه/ تهريبه)، لا بل، فحتى لو اقتصرت حصيلتنا على رفع أسعار المهربات، فلن يخلو الأمر حينها من فائدة نقدية تقاس بمسطرة تراجع الطلب على استهلاكه، ومن ثم تقليصاً في الكتلة الدولارية المسرّبة خارجاً لتوريده.
في العموم، سيكون لاستئناف مكافحة التهريب في منافذ بيعه، أن يؤسس لخطوات ملموسة في دعم عموم شعارات الحكومة المعلنة حول دعم مصادر التمويل الحكومية، واستقرار النقد، وتعافي الإنتاج وتحسين المعيشة.
فمع الانتكاسات المتتالية لأمنياتها الإستراتيجية في تنمية «الأسواق التصديرية»، لم يعد للسياسات الإنتاجية الحكومية سوى أسواقها الداخلية بالدرجة الأولى، فما لم تستطع «التصدير»، فعلى الأقل اصنعْ سوقاً محلية لمنتجاتك، وإذا ما فشلتَ في تنمية الإنتاج وفق الصيغ المترنحة التي يتم التعاطي بها حتى الآن، فعلى الأقل دعْ مجالاً للطلب المحلي القادر على تعزيز جدوى الاستثمار في الإنتاج.
وما لم يذكره وزير المالية صراحة، هو المساهمة الفعالة للتهريب في تعميق الجراح المعيشية»، فعادة ما يدفع الفقراء بطبيعة الحال ثمن الاستقرار النقدي بعد دورة التفافية طويلة تتوزع حلقاتها على سعر الصرف والتضخم، والتشغيل والقدرة الاستهلاكية.
الحكومة التي قرعت في «شنشار» طبول معركتها مع التهريب، مطالبة أيضاً ببرهنة نيتها الانتصار لشعاراتها الاقتصادية الماثلة كهياكل عظمية تتدحرج فوق ألواح الصفيح: كثير من الضجيج قليل من المغزى، فوفقاً لمبدأ ترسيخ البدائل، سيجب عليها إطلاق معركة أخرى لشقّ الأنفاق الضرورية لتحرير الكوامن الإنتاجية من داخل سجونها البيروقراطية المتفرقة، مستفيدة في ذلك من الفرصة التي ستكرسها مكافحة التهريب لتعظيم تنافسية المنتج المحلي عبر تحميل الأول مزيداً من الأعباء، مقابل احتضان حقيقي فعال للثاني.
لا يجدر النظر إلى «موقعة حلب» كنهاية المطاف في (حرب التهريب)، قريباً سنكون على موعد متجدد مع حملات ممنهجة سيشنها المتضررون على السلك الجمركي عبر منصاتهم (المرنة)، وسنشهد حلقات متتالية من ابتزاز كل ما من شأنه تحوير مهمته أو تقييدها بذرائع مكرورة أو مبتكرة، هذا أمر أكثر من اعتيادي، فـ(مواجهة حلب) المسلحة فتحت الأبواب لجميع الاحتمالات المتصورة وغير المتصورة في ممانعة التهريب وممارسيه، للمكافحة.
ثمة جمركيون (طالحون) بالتأكيد، هذا أمر يسهل توقعه كما في أي مؤسسة أو لربما عائلة سورية، لكن ثمة (صالحون) أيضاً، جميعهم سيتعرضون لوهن ممنهج في عزيمتهم ومن أبواب شتى، ومن باب الحفاظ على سمعتهم كسلطة وطنية، عليهم اغتنام سياسة الباب المفتوح التي أعلنها وزير المالية خلال (يقظة شنشار)، كما عليهم أن يتذكروا دائماً بأن أقراناً لهم قدموا أرواحهم لحماية الاقتصاد الوطني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن