قضايا وآراء

أعمدة إسرائيل

| د. يوسف جاد الحق

ترى هل للحزن مواسم؟ إذا كان الناس، في سائر أرجاء الدنيا، تمر بهم مناسبات حزينة، من حين إلى آخر، لما تعرضت لها حياتهم، أفراداً وأسراً أو شعوباً، يتذكرونها في مناسباتها وتاريخ وقوعها من كل عام، فإن الفلسطيني يعيش أيامه كلها حزناً مقيماً سرمدياً، يفري الفؤاد ويهصر النفس؛ على ما فقد من بلد ومن أهل وولد.
الفلسطيني الذي أخرج من أرضه عنوة، وسرق منه وطنه يضويه الحنين إلى ذلك الوطن الذي استبيح بفعل مؤامرة دولية صنعها أعداء أمته العربية الأزليون، هم المستعمرون الغربيون واليهودية العالمية، فأمسى جراء ذلك، يتأرجح طوال عمره بين حالتين: إحداهما عيشه مشرداً، نهباً للمخاوف، والقلق الدائم على مصيره ومستقبله، وذريته من بعده، وثانيتهما الأمل الذي لا يخبو بالعودة إلى الديار. حلم لا يبرح مخيلته، على الرغم من عوامل الإحباط واليأس التي أحاطت به منذ غادر فلسطينه عام 1948، على نحو قلما يبدو من خلاله بصيص ضوء على أرض الواقع، فلقد أمست أيامه كلها، والشهور والأعوام حزناً مستديماً مضنياً.
ولكن، وعلى الرغم من ذلك كله، فإن لبعض الشهور خصائص مميزة جعلت منها علامات بارزة، ومحطات على طريق الزمن، سطرت في سفر التاريخ، في يوم محدد أو أكثر من أيام الشهر المعني، لما كان لها من تداعيات واضحة المعالم والأثر في حياته.
شهر تشرين الثاني كان واحداً من هذه الشهور التي شهدت وقائع بعينها صنعت مأساة فلسطين وشعبها، على مر عقود ناهزت السبعين عاماً، والأمل المنشود ما انفك قائماً يبشر باقتراب يوم العودة إليها إذا ما احتسبنا المتغيرات الإقليمية والدولية الجارية اليوم على قدم وساق، ومن أهمها نهاية حكاية القطب الأوحد الأميركي، وبروز قوة دولية جديدة ذات شأن في موازين القوى الفاعلة في السياسة والاقتصاد ومصائر الشعوب عالمياً.
لقد حفل شهر تشرين الثاني بأهم حدثين في التاريخ الفلسطيني المعاصر، ففي الثاني منه عام 1917 صدر عن وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور في حكومة لويد جورج، وعد لليهود يمنحهم فيه، بغير حق أو صفة، حق إنشاء «وطن قومي يهودي» لهم على أرض فلسطين التاريخية، التي زعموا يومئذ أنها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»!
أكذوبة مفتراة، لم يشهد التاريخ البشري لها مثيلاً، كانت فلسطين حينذاك عامرة بأهلها، بمدنها وقراها ومزارعها ومصانعها، على حين لم يكن على أرضها من اليهود أكثر من بضعة آلاف، لا تكاد تُرى بالعين المجردة، وقد ترتب على هذا الوعد فيما بعد كل الذي جرى، وما انفك يجري حتى يومنا هذا، وعمدت بريطانيا بعد أن فوضتها عصبة الأمم المتواطئة أيضاً في حق شعبنا بما عُرف بالانتداب البريطاني ولم يكن الهدف منه ومن ذلك الانتداب غير تهيئة البلاد لتنفيذ المؤامرة، وتحقيق الحلم اليهودي بإقامة دولة لهم، وليس مجرد مأوى فيها، فضلاً عن دعمها ورعايتها لتمكينها من الوجود كأقوى ما تكون في المحيط العربي من حولها، سواء أكان ذلك مادياً أم معنوياً عسكرياً أو سياسياً في المحافل الدولية.
من ثم نص وعد بلفور على «وضع البلاد الفلسطينية في أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية تمكن اليهود من إنشاء الوطن القومي اليهودي على أرضها» ولكي تضمن عميدة الإجرام بريطانيا، التنفيذ الفعلي للمخطط البريطاني الصهيوني عيّنت حاكماً يهودياً للبلاد تحت عنوان المندوب السامي، هو هربرت صموئيل، اليهودي لحماً ودماً ومعتقداًـ ولا ننسى أن هذه الأحداث قد جرت بعد قرار المؤتمر اليهودي العالمي الذي عقد في مدينة بازل بسويسرا عام 1897، برئاسة ثيودور هرتسل، صاحب كتاب «الدولة اليهودية»، الذي تنبأ بقيام دولة لليهود في فلسطين في غضون خمسين سنة، وهو ما تم فعلاً، وذلك بسبب الدأب الصهيوني، والقوى العالمية الضالعة مع اليهود، على الوصول إلى ذلك الهدف المنشود.
أما الحدث الثاني فقد جرى في التاسع والعشرين من الشهر نفسه، من عام 1947، الذي أسفر عن قيام كيان للعدو الصهيوني، فهو مشروع التقسيم الصادر عن هيئة الأمم المتحدة، الذي رفضه وقاومه العرب والفلسطينيون آنذاك بطبيعة الحال، هذا المشروع أعدت له كل من أميركا وبريطانيا وعملتا على إقراره. كان وزير خارجية بريطانيا يومئذ آرنست بيفن، الذي أعلن عن عزم بريطانيا، الانسحاب من فلسطين وإنهاء الانتداب البريطاني عليها في 15 أيار 1948، الموعد الذي أعلن فيه اليهود، قيام كيان لهم سموه إسرائيل. بينما أعلنت الدول العربية عزمها دخول الجيوش العربية إلى فلسطين في الموعد نفسه، للحيلولة دون تنفيذ مشروع التقسيم، ثم كان ما كان، مما يعرفه اليوم القاصي والداني، الذي كان من شأنه ضياع معظم الأرض الفلسطينية، ناهيك عن تشريد شعبها، وتحويله في الشتات إلى شعب يحمل عنوان «اللاجئين الفلسطينيين»!
هذه الذكرى التي نعيشها اليوم وقد أصبحنا أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق حلم العودة، بالتحرير وليست العودة بموافقة العدو الإسرائيلي ورضاه وتحت سلطته، ذلك أن ما جرى، وما انفك يجري من أحداث تشمل المنطقة أولاً، بفضل الأجواء السائدة التي كشفت عن أمرين أولهما أن العرب قادرون على التصدي للعدو في حلف المقاومة: سورية وإيران والمقاومة اللبنانية والفلسطينية، التي لن تقف عند حدّ هزيمة القوى المتآمرة على هذا الحلف، وثانيهما هو ما آلت إليه حال الكيان الصهيوني نفسه من تراجع يقارب الانهيار، بفضل المتغيرات الدولية، والإقليمية، التي ليست في مصلحته على الإطلاق، وإنما هي نذر تنبئ بزوال وجوده عن ديارنا. هذا الوجود الذي فرضته ظروف مواتية، بالنسبة له، وفرضته دول كانت في حينه في أوج قوتها، ولكنها اليوم قد أوشك نجمها على الأفول، إذ لم تعد هي القادرة على التحكم في مفاصل السياسات الدولية، كما كان يحدث حتى وقت قريب.
أما عن التهاون العربي فهذا له حديث آخر، ذو شجون لا يتسع المقام للخوض فيه بما هو جدير به من قول وتفصيل، وقد لا تتسع له مجلدات ومجلدات، وإن كان عاملاً أساسياً في تمكين الأعداء من الوصول إلى مبتغاهم.
أخيراً وليس آخراً: هل لنا أن نأمل في تشرين الثاني من عامنا المقبل 2019 أن ينفض عن نفسه سمة الشؤم والتشاؤم التي لازمته طويلاً، وعشناها مع ذكراه على مرّ العقود السبعة المنصرمة؟
أمل سوف يتحقق، سواء في تشرين أم في غيره من أيام اللـه الآتية وكل آتٍ قريب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن