ثقافة وفن

الحب بين ميلادين كريمين

| إسماعيل مروة

العلاقة بين الإنسان والرب علاقة بسيطة لا تحمل أي نوع من التعقيد فهي رضا وقبول، إيمان وتسليم يتوجه من العبد إلى الرب، ورضا وقبول من الرب إلى العبد، لا وساطة فيها، وأي وساطة تمثل عقدة يصعب تجاوزها، وقد أثبت اللاهوت أو علم الأديان منذ القدم، وفي مختلف الشرائع أن العلماء في اللاهوت، وطبقة رجال الدين ليسوا أكثر من باحثين عن مجد علم، ويصدق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم: ليقال عالم وقد قيل.. ولكن هذا الإرث اللاهوتي العقيدي الإنساني المنشأ زاد الأمور تعقيداً، وصار الإنسان يعيش مسافة ضوئية بعيداً عن تلك العلاقة البسيطة مع الرب، ولا مراء في أن ما فرضه علماء الدين ورجاله على أتباع الشرائع كبّلهم وجعلهم يدورون في فلك إنساني لا رحمانية فيه ولا رحمة!
فالعلاقة تقوم على الحب والرضا، ولا تقوم على السخط والغضب والإكراه، ومن هنا التقطت ما سمعته من محاضرات سماحة المفتي العام الأستاذ الدكتور أحمد بدر الدين حسون والتي ألقاها في حلب (لا إكراه في الدين) ولم يكن النص المقدس (لا إكراه) في الإسلام أو في الشعائر، لأنه قد يتم الإكراه في المظهرية الشرعية، لكن الدين عميق الغور بعيده، ومن المحال أن يتم فيه إكراه، لأننا قد نمارس شيئاً، ونضمر شيئاً آخر، والاعتماد على ما هو داخل عقل المرء وجوارحه، وللحقيقة فإن هذه القراءة هي قراءة عميقة لم يصل إليها وعي، وأظن أن الكثيرين مثلي لم يصلوا إلى هذه المدارك من القراءة. ومن هذا الفهم العميق أعود لما قلته في رحيل العلامة الدكتور البوطي، ففي رحيله لم نفقد عالم شرع، ولا أستاذاً، وإنما فقدنا الوحيد على الساحة العربية الذي كان يعمل الفكر والعقل، ويعمد إلى المحاججة، وقد حضرت دروسه (كبرى اليقينات الكونية) في جامع السنجقدار في الثمانينيات من القرن العشرين، وأعجبت بهذا القدر من النقاش العقلي.
وأذكر أن أستاذي الدكتور طيب تيزيني وفي جلسات عديدة كان يشير إلى عمق نقاش الدكتور البوطي، وقدرته على الحوار لا على فرض آرائه بطريقة أو بأخرى، وكلنا يذكر الحوار الذي دار بينهما على التلفزيون السوري، ورقي هذا الحوار الذي لا يقوم على التسفيه والرفض، بل يقوم على النقاش بغية الإيضاح والشرح وليس بغية الإقناع والاستمالة، وبفقد الدكتور البوطي لم تفقد سورية وحدها، بل فقد الفكر الإسلامي باحثاً ومفكراً جلّ أبحاثه محاكاة عقل، من الفكر والقلب، وله الأبحاث التي كانت في القمة، والتي تعالج الحياة المعاصرة، سواء اتفقنا أم اختلفنا فيها وفي تناولها، إلا أن الدكتور البوطي كان فيها محاوراً، وكان أديباً ومترجماً عن الكردية، وهذه الصفات المجتمعة قلّما نجدها في شيخ معمم.. لقد كان مختلفاً، وخسرنا علامة مميزة ومختلفة بكل المقاييس.
وأذكر لتميزه الخلاف بينه وبين سواه، فقد التقيت قبل الربيع المزعوم والفوضى الحقيقية في سراييفو الشيخ يوسف القرضاوي مع عدد من الأساتذة السوريين، ولا أنسى تحفظه تجاهي عندما سمع اسمي وقوله: أنت صديق مفتي سورية، فأجبته لست صديقه بل أنا إن قبل شقيقه وأخوه وتلميذه، وقد يقبل صداقتي، وهذا الرجل، على البعد، وعلى عدم المعرفة الشخصية رسم حداً، ووضع تحفظاً دون أن يحدث أي حوار؟ وسألت يومها أحد الأصدقاء الصحفيين، هل يعقل أن تكون روح العلماء هكذا؟
أعود إلى ما بدأت من استماعي واستمتاعي واقتناعي بما يتحدث به سماحة المفتي العام، وعندما قال له أحد الحاضرين من المسيحيين وهو على درجة من العلم: إن الإسلام الذي تتحدث عنه أحببته فأجابه سماحة المفتي: إن ما أريده منك أن تحب عيسى وأن تؤمن بما جاء به، كما أطلب من المسلمين أن يحبوا محمداً، وأن يطبقوا ما جاء به، ولو طبق المسيحيون ما جاء به المسيح، لما كانوا يخوضون الحروب وغمارها من حرب إلى حرب، ولما كانوا يعتدون على الشعوب والأمم الأضعف، وكذلك الحروب والقتل والتدمير الذي قام به المسلمون يدل دلالة قاطعة على أنهم لم يتبعوا ما جاء به الإسلام.
دُهش ذاك بالجواب، وكان الجواب حقيقياً من سماحته، فهو يرغب ببناء مجتمع محب، ولا يرغب في استمالة الناس عقيدياً لتبديل عقائدهم.
إن ما طرحه سماحة المفتي بعلمه وشخصه قبل أن يتشرف بمهام الإفتاء كان خير الإنسان وسعادته، وما حافظ عليه بعد أن حمل مهام الإفتاء لم يتغير، بل زاد بربط الإيمان بالوطن والوطنية، فأعطى للإيمان بالأوطان والتراب خصوصية وقداسة، ولم يحد عن ذلك على الرغم من كل الحملات المغرضة، والمغرضة لا تحمل أي شعاراتية، فلم يبق منبر من المنابر التي تنهش بسورية إلا وتناوله بما استطاع جزاء مواقفه الوطنية، وقراءاته للنص ا لديني التي تناسب حياتنا وتحافظ على وحدتنا وعيشنا.. وكل ذلك لم يفت في عضده وعلمه وحركته الدائبة من أجل سورية وحاضرها وغدها المشرق، كما إن ثقة السيد الرئيس بسماحة المفتي لم تتزعزع بل زادت قناعة ورسوخاً بالدور التوعوي التنويري الحقيقي لسماحته، ما أعطى للإفتاء دوراً مهماً ولدور المفتي قيمة إضافية.
ولكن أغرب ما رأيته في الآونة الأخيرة أن يتفق خصوم سورية في الخارج والأصوات الناعقة ضدها، والساعية إلى تدميرها، مع أصوات في الداخل، وما أظن الاتفاق إلا من باب الحقد على سورية وحاضرها ومستقبلها..
الإسلام يحصّن بالسلام
والمسيحية تحصن بالعفو
والوطنية تحصن بالانتماء
فلنعد إلى العلاقة الطبيعية البسيطة بين العبد والرب، ولتكن دون وسائط وكهنوت، وليكن دور العلماء ورجال الدين الدعوة إلى الحب والتسامح من أجل حياة مختلفة.
كل يوم يولد من يحفظ القرآن أو الحديث، ولكننا نعجز عن إيجاد من يعلمنا الإيمان في كل يوم نطوّب مطراناً أو بطريركاً، ولكننا نعجز عن إيجاد من يرشدها إلى يسوع.
في كل يوم يولد من نظنه ويظن نفسه، لكن من الصعب أن يتكرر البوطي وإلياس زحلاوي وأحمد بدر الدين حسون.
نحتاج إلى العالم الشغوف بالأدب والموسيقا والحياة.. وقبل كل شيء الشغوف بالأوطان والإنسان.. نحتاج إلى ذلك الذي يمهد العلاقة القائمة على الحب بين العبد والرب، الذي يحترم عقولنا، ولا ينفي إنسانيتنا وإنسانيته، يغضي عن أخطائنا، ولا يرى نفسه مقدساً.
ما بين ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم ويسوع عليه السلام مسافة من رحمة وحب لا قيمة للزمن فيها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن