ثقافة وفن

كيف نخرج من الفوضى في حوض المتوسط والشرق الأوسط؟ … المستشرق الفرنسي جيل كيبل: خدعنا الربيع العربي وساقنا إلى فهم خاطئ لما يجري

| إعداد: مها محفوض محمد

يحاول الكاتب المستشرق الفرنسي جيل كيبل أن يرشد إلى الطريق، ويوجه التفكير إلى التاريخ إذا ما كان امتحاناً للماضي أو إسقاطاً على المستقبل من خلال الماضي! فبعد أربعين عاماً من عمله الدؤوب والتخصص في الحركات الإسلامية والعالم العربي أغنى خلالها المكتبة الغربية بمؤلفات عن ظاهرة الإسلام السياسي وقد شكل كتابه «انتشار وانحسار الإسلام السياسي» مرجعاً للمراكز الإستراتيجية التابعة لدوائر صنع القرار في فرنسا، واليوم يقدم في أحدث كتاب له «الخروج من الفوضى في الشرق الأوسط وحوض المتوسط «رؤية عن فوضى الشرق الأوسط والإشكاليات الكبيرة في المنطقة وعن الراديكالية في أوروبا، وتحليل لتاريخ ومتابعة وفقاً لعدد من الأبحاث التي تستند إلى أرشيف كبير ووثائق وبيانات أخرى كما يكشف النقاب عن أسباب معركته ضد «ايديولوجيا العصر» التي تستخف بالعلم والمعرفة.

جيل كيبل أستاذ جامعي ومدير قسم الشرق الأوسط في معهد الدراسات السياسية في باريس، لم يخش يوماً من التعبير عن رأيه رغم الهجوم الشرس من الذين يتهمونه بملازمة فكرة «الجهادية» وتهديد أصوليي داعش له بالقتل فهو أكبر باحث فرنسي في تحليل الظاهرة الأصولية المتطرفة، واعتبر البعض دراساته مرجعاً مهماً لفهم التحولات الكبرى في المنطقة، إذ تتميز بالرصد الدقيق لتفاعلات أحداث تجري في مجتمعاتنا، ومن الأجدى أن يقوم باحثون عرب بدراستها وتحليلها واستشراف التطورات المستقبلية بحثاً عن حلول لمعضلات هذه الأمة لكنهم قد لا يملكون أدوات البحث أو لا يريدون تحمل عنائه.
في كتابه الأخير هذا يرسم كيبل دوائر الاضطرابات التي تهاجم الشرق الأوسط وحافة المتوسط ويوضح متاهات الأحداث التي منذ قيام كيان إسرائيل 1948 أدمت المنطقة ومن سورية إلى مصر عام 1973 إلى سحق «دولة داعش» تقريباً في العراق وسورية، يوضح كل التعقيدات والغدر لتاريخ مظلم لم تتوقف محركاته عن الدوران.
يقول الكاتب: لقد شهدنا منذ العام 1973 إسلاموية متدرجة في السياسة ثم انتشار الجهاد الذي وصل إلى الغرب وارتداد لا يضع حداً للظاهرة الجهادية وإذا كانت الحدود بين الجهاد الداخلي للقاعدة والخارجي لداعش مموهة فإن الجهادية تدعو مصادر محلية لارتكاب أعمال إرهابية على الأراضي الأوروبية وليس كما حصل في 11 أيلول بتجنيد إرهابيين قادمين من الخارج – سعوديين في أغلبيتهم – لضرب الولايات المتحدة وقد انتقلنا خلال السنوات العشر الأخيرة من حماسة الشعارات الديمقراطية الكونية لـ«الربيع العربي» إلى تراجع مشؤوم للسلفية وإلى داعش وهكذا استقرت الفوضى اليوم في محيط المتوسط.
العالم كله أخطأ وكنا قد انبهرنا وأعمانا الصخب الذي أطلقته هذه الحركات وما سمي «الثورات العربية» واعتقدنا أنها ستأخذ المنطقة إلى نظام ديمقراطي لكنها في الواقع أدت إلى فوضى عارمة وحالة تشظي لهذا الشرق.
في كانون الأول عام 2011 كنت أتناول العشاء في قاعة رئاسة الأركان في مصر يومها قال لي ضابط مصري إن الجيش سيدع الإخوان المسلمين يربحون الانتخابات لأن هؤلاء سوف تظهر عدم كفاءتهم بسرعة ومن ثم سيستدير الشعب نحو الجيش، لم آخذ هذا الكلام على محمل الجد وسحبت القصة من كتاب كنت سأنشره يومذاك «شغف عربي» لكن هذا ما حصل بالضبط.
الجهادية قامت على ثلاث مراحل الأولى عام 1979 في أفغانستان تتالت مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1989 وبعدها في البوسنة ومصر والجزائر، المرحلة الثانية كانت بتغيير الإستراتيجية حين ضرب بن لادن في واشنطن ونيويورك عام 2001 والمرحلة الثالثة في العام 2005 وهي مرحلة مهمة جداً في تاريخ الحركات الأصولية المعادية للغرب عندما أشاد أبو مصعب الزرقاوي بالقتال بين الشيعة والسنة ثم عندما دعا أبو مصعب السوري إلى ضرب أوروبا وما أسماه بالمقاومة الإسلامية العالمية ومع غليان الربيع العربي ترسخت القوى الإسلامية بأعرافها واستثمرت الساحة.

داعش تستغل النصوص الدينية
لاستثارة الناس
يقول كيبل: من يزعم أن داعش لا علاقة لها بالإسلام فهو يجهل التاريخ والنصوص والطريقة التي تستخدم فيها هذه المجموعات المدونات والخطب والمواعظ، هذا واضح في نصوصهم والرهان كله في التفاسير، لكن قدرة داعش على الإيذاء تضعف مع واقع تدميرها على الأرض مع أني لا أعتقد أن الجهادية ستختفي لأن أنصارها لا يعرفون الندم ونراهم في السجون وعلى مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً لأنها تشكل جزءاً من حركة تاريخية، إن سلفية العقول أمر خطير جداً ولا أمل في الأمير السعودي أن يوقف هذه الايديولوجية في الجوامع الأوروبية لأن التصدع الثقافي الذي تؤسس له السلفية بالنسبة إلى قيمنا «الديمقراطية وحرية المعتقد» يزوّد القوام الفكري للجهادية وهذا ما نراه في ضواحينا حيث توجد هذه الجماعات والسجون الفرنسية هي أكاديمية للجهاد والردح له وما يفعّله الاعتقال، ومع نهاية العقد الأول من القرن الحالي بدأت السلفية الجهادية تتحول إلى ظاهرة خطيرة في استقطابها للشباب المهاجرين المسلمين من داخل المساجد في عواصم أوروبا ومدنها حيث يلاحظ تراجع المؤسسات الدينية التابعة للدول المغاربية مقارنة مع تصاعد المد السلفي المرتبط بالسعودية في الساحة الفرنسية ما يتطلب إعادة النظر في وظيفة وأداء تلك المؤسسات من قبل أصحاب القرار الذين أفرغوا الساحة من الأحزاب اليسارية لتترك إلى التيارات الإسلامية.

السياسيون لدينا فاسدون
اليوم نجد الانتلجنسيا الإسلامو- يسارية تستفيد من التصحيح السياسي الرائج لتنصب شراكها. اليوم علينا أن نقود معركة المواجهة حيال إخفاق التحليل الغربي المستند إلى رؤى تجعل من الجهادية مصادفة وتنكر أصولها التاريخية.
السياسيون لدينا فاسدون والصحافة أيضاً فهذا الواقع يجب إصلاحه وألا يبقى خفياً على أحد.
وعن الخيارات حول طاولة إيمانويل مكرون ودونالد ترامب أو فلاديمير بوتين؟ يجيب الكتاب عن مواضيع شائكة من خلال تحليل علمي تربوي كما يقدم عرضاً كاملاً واضحاً للأزمة السورية فالكاتب قوي بخبرته في الميدان ومعرفته بالمنطقة التي لم يتوقف عن الذهاب والعودة إليها خلال السنوات الأخيرة ومنذ أن كان شاباً وجاء طالباً إلى سورية أخذ يحلم بمتابعة ودراسة أحداث المنطقة وارتدادات مجساتها الإسلامية التي تزعزع العالم اليوم وليس فقط الشرق الأوسط أو بلاد المغرب.
بقلمه اللاذع وبمساعدة خرائط غير منشورة يقدم مشاركة أساسية لمن يريد فهم العالم اليوم وغداً ويصف أسلمة الشرق الأوسط بالخطيرة ويرى أننا في بلاد المشرق نشهد لحظات شبيهة بأوروبا عام 1918 أو في عام 1945، يحاول كيبل في مؤلفه هذا أن ينسج منطق الخروج من الفوضى أو طريق الخروج من الأزمة، وطموحه في ذلك أنه يقدم زاداً لمن يريد الفهم وإدراك ما يحصل وبناءً على تاريخه الطويل في هذا المضمار يقدم لنا كيبل منظاراً حقيقياً للنماذج المتغيرة – من خلال عدة موشورات – لإدراك الأحداث التي ميزت بداية هذا القرن من «ثورات عربية» دفعتها الهبوب ذاتها وأدت إلى حروب كما حصل في سورية.
ويأمل الكاتب بل يعتقد في كتابه هذا «الخروج من الفوضى» أنه يمكن التوصل إلى حل سياسي في سورية واتفاق بين الروس والغربيين لتأمين مسار السلام وأن هذا هو المفتاح لحل المشكلة أيضاً بالتوصل إلى اندماج شجاع لمنطقة الشرق الأوسط في النظام العالمي ما يؤدي إلى خلاصه وأنه يجب الأمل بتحقيق هذه الرؤية المتفائلة.
جيل كيبل من مواليد باريس 1955 سياسي متخصص في الإسلام والعالم العربي المعاصر اكتشف الشرق الأوسط عام 1974 في أول زيارة له إلى سورية ليتابع بعد عودته إلى باريس دورات لغة عربية في جامعة سانسييه ثم يعود ليتعلم اللغة العربية في المعهد العربي الفرنسي في دمشق عام 1978.
درس العلوم السياسية والفلسفة واللغة الانكليزية، أطروحته للدكتوراه كانت الحركات الإسلامية المعاصرة والإخوان المسلمين لينشر بعدها أول كتاب له عام 1983 «النبي والفرعون» ثم عين باحثاً في معهد الدراسات (cnrs) فأنجز أبحاثاً حول تطور الإسلام في فرنسا كظاهرة اجتماعية وسياسية وعلى أثرها أصدر كتاب «ضواحي الإسلام» الذي اعتبر عملاً رائداً عن الإسلام في الغرب وتتالت بعدها مؤلفاته منها «رعب في فرنسا.. نشأة الجهاد الفرنسي» و«فتنة» ومؤلفات أخرى ترجم معظمها إلى عدة لغات، وعمل أستاذاً زائراً في جامعتي كولومبيا ونيويورك.
ينتقد كيبل غياب الباحثين الفرنسيين في هذا المجال كما انتقد التهميش الذي طال أعمال الباحث محمد أركون الذي حاول مع بعض المثقفين العرب التصدي لخطاب التطرف الديني ولا تخفى النزعة الاستشراقية لدى كيبل عندما يدعو الباحثين ومراكز الدراسات إلى ضرورة دراسة منطقة الشرق الأوسط وفهم تاريخه عن طريق تعلم لغته حيث يقول: «كي لا نسقط في تخبط كالذي وقعنا به مع أحداث الربيع العربي».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن