ثقافة وفن

تبقى القلاع والحصون في سورية.. شاهداً حياً على صمود السوريين وتشبثهم بأرضهم

| المهندس علي المبيض

نواصل في مقالتنا اليوم رحلتنا في ذاكرة التاريخ من خلال تسليط الضوء على بعض جيل القلاع والحصون التي تغني ذاكرة سورية التاريخية والأثرية وكنا قد تحدثنا في المقالات السابقة عن القلاع في محافظة طرطوس التي يزيد عددها عن عشرين قلعة أو برجاً تتقاطع فيما بينها وتتوزع على كامل مساحة المحافظة بشكل يحافظ على عبق التاريخ في كل شبر من طرطوس لتعطي هذه المحافظة أهمية دفاعية كبيرة في زمن بنائها ولتبقى هذه القلاع معالم تاريخية مهمة وشاهداً حياً على صمود السوريين وعزتهم واستبسالهم في الدفاع عن أوطانهم وتشبثهم بأرضهم وابتكارهم أساليب متنوعة للوقوف في وجه الطامعين بنهب خيرات سوريتنا الغالية، شواهد عملاقة تطل علينا من تاريخ المنطقة وحضارتها على الشريط الساحلي السوري حين يقف المرء على أعجوبة، حيث يتجمع أكبر عدد في العالم من القلاع والحصون التي تضمها منطقة واحدة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تاريخ حافل وتراث مهم جداً، ونستكمل اليوم الحديث عن بعض القلاع في محافظة طرطوس.

قلعة الكهف
تقع قلعة الكهف في محافظة طرطوس وهي من القلاع الأثرية المهمة وتبعد عن القدموس نحو 20 كم كما تبعد عن قرية الشيخ بدر مسافة 15 كم من الجهة الشمالية وتتربع القلعة على هضبة صخرية مطلة على واد سحيق تحيط بها الجبال فتغدو شبيهة بالحصن الطبيعي ويلاحظ زوار القلعة مباشرةً أنه تم اختيار موقعها بعناية فائقة لكونه من المواقع المحصنة طبيعياً والأكثر وعورة الذي يساعد في صد هجوم الغزاة، وتزداد أهمية موقعها إضافة لكونه من المواقع الحصينة بأنه يمنح القلعة ميزة السيطرة على بقية القلاع المجاورة كقلعة القدموس والعليقة والخوابي ومصياف والرصافة وقلعة أبو قبيس.. لوقوعها على تلة مرتفعة وفي منطقة متوسطة وعلى أبعاد متساوية تقريباً أو متناظرة وكانت ترتبط معها بواسطة الشهب النارية.
تعد قلعة الكهف من القلاع النادرة التي بنيت ونحتت في الصخر ولذلك سميت قلعة الكهف يبلغ طول ضلعها 600م وعرضها نحو 15م، وحسب المواصفات المعمارية لبعض الأطلال المتبقية فيها يتبين أن القلعة كانت موجودة في القرن الحادي عشر الميلادي، وخلال العصور اللاحقة تعرضت القلعة للعديد من الأضرار نتيجة الظروف الجوية والحروب والهجمات المتلاحقة إذ انتقلت السيطرة على القلعة من العرب إلى الصليبيين عدة مرات، وفي الوقت الحالي تم زوال معظم معالمها ولم يتبق منها سوى أطلال ويتم الدخول إليها عبر ثلاث بوابات.
يجهل الكثيرون أهمية قلعة الكهف، فهي عبارة عن كتلة صخرية مفرغة تماماً من الداخل تحوي ثلاثة طوابق من الكهوف الحجرية، اكتشف بداخلها بقايا معبدين يعتقد أنهما رومانيان لكن النباتات والأحراش تغطيهما بشكل كبير جداً، وقد عجزت القوات الفرنسية عن دخولها بسبب منعتها وتحصيناتها واستبسال الثوار المتحصنين بداخلها في الدفاع عنها، وفي داخل القلعة سبع غرف منحوتة بالصخر وقد كانت إنارتها في السابق تتم بواسطة فتحات في سقف القلعة.
ترتفع فوق سور قلعة الكهف ثلاثة أبراج متهدمة من الجهات الشرقية والجنوبية والشمالية، البرج الشرقي يتقدم القلعة ويطل على قلعة القدموس من الشمال الشرقي، أما البرج الشمالي فيعلو المدخل الرئيسي ويطل من الناحية الشمالية على واد سحيق وكذلك البرج الجنوبي يطل على واد سحيق جنوبي القلعة.
ومن الآثار الباقية في القلعة جامع القلعة الذي يوجد على سطح القلعة قرب الساحة التدريبية من الجهة الشرقية ولم يتبق منه الكثير فهناك قاعة مسقوفة بقناطر متهدمة، وهناك أيضاً الدرج الذي يتجه نزولاً باتجاه الساحة وقد سدت اتجاهاته وتهدم معظمه وتقول المصادر التاريخية إن هذا الدرج يقود إلى الكهف وفيها آبار لتخزين المياه كما كانت تصلها المياه بقناة فخارية من عين ماء تبعد عن القلعة مسافة 2كم.

قلعة العريمة
هي مقصد السياح والباحثين عن عبق التاريخ بسبب السمعة المعتقة لهذه القلعة، تقع قلعة العريمة على بعد 25 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من مدينة طرطوس وإلى الشمال الغربي من بلدة الصفصافة بمسافة 2 كم والجنوب الغربي من منطقة صافيتا وعلى خط نظر لا يتعدى 10كم عن شاطئ البحر ترتفع عن سطح البحر نحو 178 متراً، تسميتها بالعربية آرامية وقلعة عُريمة وبالأجنبية arima و orima تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن قلعة العريمة هي قلعة أمورية قديمة كانت تابعة لمملكة سيميرا وهي إحدى ممالك أوغاريت الآرامية استناداً لاسمها arimaاستخدمت مركزاً دفاعياً تابعة لمملكة أرواد غير أن مصادر تاريخية أخرى تشير استناداً لبعض اللقى الفخارية التي وجدت داخل القلعة وحولها إلى أن قلعة العريمة تعود إلى الحقب الرومانية اليونانية والبيزنطية، وبسبب صعوبة القيام بالتنقيب فيها أو عمل سبر أثري منهجي فإنه لم يتم تحديد تاريخها الأول بالضبط ولقد ورد أول ذكر للقلعة في المصادر التاريخية بانتقالها من مالكيها الطرابلسيين إلى الكونت دوتولوز وذلك عندما قدم فرسان الاسبتارية إلى طرابلس عام1142م واتخاذهم قلعة الحصن مركزاً لهم والانطلاق منها لباقي الأراضي. ‏
قلعة العريمة متهدمة تقع على تلة مرتفعة نسبياً تتاخم السهل العريض (سهل عكار) وتتحكم في مدخل وادي نهر الأبرش، حصينة يرجح أن تسميتها بالعريمة جاءت من العرمة وهي كومة القمح غير المدروس، وقلعة العريمة كبيرة تحيط بها أشجار البلوط وعدة أسوار مهدمة، وتتألف من برجين من الحجر الكلسي الأبيض لم يتأذيا كثيراً وعدة سراديب وبعض الغرف والقاعات الطويلة التي تقوم على عقود علماً أن بعض غرف وقاعات القلعة من الداخل ما زالت تحافظ على كيانها، يقع البرج الأول إلى جهة الجنوب الغربي من القلعة ويصل ارتفاعه إلى ثلاثين متراً، وهو مهدم من جهة الشمال، عريض من الأسفل ويضيق في النهاية، مبني بحجارة ضخمة جداً والبرج الشمالي له مواصفات البرج الأول، وهذان البرجان مملوءان من الداخل إذ يصعد إليها فقط من أحد الجدران، وتحافظ أبراج القلعة على هيكليتها، وهما مبنيان بهدف الرصد والمراقبة فقط، لأن بإمكان من يقف على أحد هذين البرجين أن يرى برج صافيتا وقلعتي الحصن ويحمور بالعين المجردة كما يمكن رؤية قلعة طرابلس وبرج ميعار رغم المسافات البعيدة بينها ناهيك عن إمكانية رؤية مساحات واسعة تصل إلى البحر كما يمكن أيضاً رؤية قلعة جزيرة أرواد، أما بقية أقسام القلعة فتتوزع بين سراديب واسعة أسقفها نصف دائرية وأنفاق لا أحد يعرف أين تنتهي إضافة إلى سجن القلعة، وأكثر ما تضرر في هذه القلعة سورها الخارجي بسبب عبث الأهالي والطبيعة، والجدران عريضة وسميكة ومبنية بطريقة الحجارة المعقودة، أما أبواب القلعة فهي على شكل أقواس خالية من النوافذ بل إن هذه النوافذ عبارة عن فتحات في الجدار ضيقة من الخارج واسعة من الداخل بحيث يرى من كان بداخل القلعة خارجها ولا يمكن من ينظر للقلعة من الخارج أن يرى من يتمترس خلف هذه النوافذ التي كانت تُستخدم لرمي السهام، وهذه الجدران والأعمدة والنوافذ خالية من الرسوم والزخارف، وكما في بنائها هي للتحصين والرصد والمراقبة، تتميز قلعة العريمة بموقعها الجميل والمشرف على سهل عكار وعلى مشهد طبيعي خلاب للأفق الفسيح الممتد للبحر وخضرة أشجار السنديان والزيتون التي تغطي الجبال المحيطة، تستحق من السادة القراء زيارتها لبثّ الروح في حكاياتها ولتنشيط ذاكرة حجارتها. ‏
برج ميعار

يقع برج ميعار على بعد 15 كم باتجاه الجنوب من محافظة طرطوس ويتربع على تلة صخرية مرتفعة نسبياً، يرتفع عن سطح البحر 200م ويبعد عن شاطئ البحر باتجاه عمريت نحو 5 كم وهو اسم كنعاني قديم لم تحدد المصادر التاريخية القديمة تاريخ بنائه، وبسبب عدم القيام بأي سبر أثري منهجي فيه حتى يومنا هذا فقد تم تقدير تاريخه اعتماداً على ما شوهد من مواد أثرية كالكسر الفخارية والزجاجية والنقود التي كانوا يتداولونها فيما مضى والتي تعود إلى الفترات الزمنية المتلاحقة ابتداء من العهد الفينيقي إلى الروماني والبيزنطي والصليبي والإسلامي، سكنت منطقة برج ميعار منذ نحو مئتي عام من سكان المناطق المجاورة له لتشكل قرية صغيرة تعرف حالياً باسمه برج ميعار، ويعتبر من الأبراج المهمة في عهد الصليبين للمراقبة والمراسلات بين القلاع الصليبية الحصن والعريمة وصافيتا والمرقب وقلعة صلاح الدين، ويتكون البرج من طابقين: الطابق الأرضي السفلي محافظ نوعاً ما على شكله التاريخي الأثري ولم يتبق منه غير غرفة واحدة والطابق الثاني متهدم بفعل العوامل الجوية، وكان انهدامه النهائي الأخير عام 1914م، وتشير الأساسات المتبقية إلى اتساع البرج ووجود حصن خارجي.
من خلال المقالات الأسبوعية التي نقوم بنشرها ونسلط فيها بعض الإضاءة على ملامح المعالم التاريخية ونقاط القوة في التاريخ السوري الحافل يتبين للسادة القراء أنه لا يمكن على الإطلاق عزل التراث الثقافي السوري عن التراث الثقافي العالمي بل يشكل هذا التراث حلقة رئيسية في سلسلة التراث الإنساني.
معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن