قضايا وآراء

هل أصبحت فرنسا دولة عجوزاً في أوروبا الضعيفة؟

| د. قحطان السيوفي

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصية مثيرة للجدل. معارضوه يقولون إنه قائد متعجرف، ويروّج لأجندة الليبراليين الجدد، وقد وضع فرنسا اليوم في أزمة خطيرة، لعلها الأخطر منذ احتجاجات عام 1995، التي أطاحت بحكومة آلان جوبيه.
بدأت حركة السترات الصفراء على شكل عريضة على الإنترنت ضد زيادة الضرائب على الوقود، وتضخمت العريضة إلى مليون توقيع. استغل المتظاهرون انخفاض الأجور، ومستويات المعيشة، والبطالة، وتراجع الخدمات العامة والمرافق المدنية في المناطق الريفية… تقلص عدد المتظاهرين إلا أن مطالب وطموحات الحركة بلغت 40 مطلباً. على الرغم من أن شعبيته كانت هابطة في الأصل عند مستويات قياسية بنسبة 26 في المئة قبل اندلاع الاحتجاجات، إلا أن ماكرون يدعي أن ما حدث من تراجع هو خطوة إلى الوراء، للانطلاق عشر خطوات إلى الأمام، وهو مُضطر لإجراء تنازلات بسبب خطورة الوضع الذي يُمثل أسوأ أعمال شغب منذ 50 عاما.
حكومة ماكرون محاصرة من قواعد المالية العامة في الاتحاد الأوروبي ومن اقتصاد يتعرض للوهن. عجز الموازنة الفرنسية من المتوقع أن يبلغ 2.8 في المئة من الناتج المحلي في عام 2019 الأوضاع المعيشية في فرنسا أقل، مقارنة بالأوضاع في دول كبريطانيا وألمانيا مثلا.
معدل البطالة في فرنسا 2.9 بالمئة، يقابله 4.3 بالمئة في ألمانيا، و2.4 بالمئة في بريطانيا. وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية «أوسيد»، فإن فرنسا هي البلد التي فيها أعلى معدل ضرائب في الدول المتقدمة، حيث تشكل الإيرادات الضريبية 46.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وثمة استطلاع للرأي نشرته مؤسسة الفرنسية «iF0 P» بيّن أن شعبية ماكرون انخفضت نقطتين إضافيتين، لتتراجع نسبة الذين يمنحونه ثقتهم إلى 23 بالمئة فقط. ماكرون في خطاب متلفز اعترف بالأزمة ومسؤوليته عن بعض أسبابها، ويحاول مدّ جسور الثقة مع الشعب. وتقليل الغضب العام على سياساته وشخصه. وزير الاقتصاد الفرنسي اعترف بأن الخسائر زادت على بليون يورو. الملاحظ أن مشروع ماكرون المحلي والأوروبي يتضمن محاور ثلاثة: إصلاح الاقتصاد، تطوير التكامل الأوروبي، والحوكمة العالمية. أجندة ماكرون المحلية تواجه متاعب آخرها الاحتجاجات، ولن يستطيع إجراء تغييرات ايجابية في فرنسا ليُقنع ألمانيا بقبول خطوات حاسمة نحو إقامة حكومة اقتصادية.
الاتحاد الأوروبي الذي يتم إصلاحه لن يستطيع الحد من قوى التعصب القومي المتصاعدة. كما أن أجندة ماكرون الدولية من المحتمل فشلها. زيادات الضرائب على الوقود كانت مجرد حافز. المشكلة الأكبر في مستويات المعيشة وهناك كراهية حقيقية للنخب السياسية والمؤسسات الحاكمة كريستوف جويلي، عالِم الجغرافيا والمؤلف الفرنسي، يقول: «الجغرافية هي النقطة المشتركة لحركة السترات الصفراء، والـ«بريكست» في بريطانيا والرئيس الأميركي دونالد ترامب، والموجة الشعبوية على الصعيد الأوروبي من المرجح ألا تلتزم ألمانيا بالإصلاحات المُقترحة للاتحاد الأوروبي من ماكرون. وتتابع الأزمات الاقتصادية في جنوب أوروبا ترك السياسيين الألمان يقولون وكأن الاتحاد الأوروبي أصبح «اتحاد تحويلات»، دافعي الضرائب الألمان يقدمون الإعانات بشكل دائم للدول الأوروبية ذات الملاءة المالية الضعيفة، قبل انتفاضة «السترات الصفراء»، كانت العلاقات الفرنسية الألمانية في سبيلها إلى التدهور، مع زيادة غضب الحكومة الألمانية مما تعتبره مواقف استعراضية فارغة يتخذها ماكرون، وهذا الأخير يشعر بالفزع من الموقف الألماني المسبق الذي يرى أن الدولة الفرنسية غير قابلة للإصلاح.
من جانب آخر صور ماكرون نفسه «كمناهض لترامب»، مدافعاً عن اتفاق باريس للمناخ، واستنكر بشدة نزعة التعصب القومي، بعد أيام من إعلان ترامب نفسه قومياً. يلاحظ أن الرئيس ترامب يستمتع الآن بمتاعب ماكرون، وكتب على «تويتر»، بسرور «الاحتجاجات وأعمال الشغب في جميع أنحاء فرنسا». وزعم أن المتظاهرين الفرنسيين كانوا يهتفون «إنهم يريدون ترامب». الرؤساء الفرنسيون المتعاقبون ولاسيما ساركوزي وهولاند، انتهى بهم المطاف أن يكونوا مكروهين من الجمهور. واليوم يعتبر ماكرون رئيساً متعاليا ورئيساً للأغنياء، وسيكون محظوظا إن استطاع إنقاذ رئاسته.
أول انتقاد وجهه المتظاهرون إلى ماكرون هو انشغاله في تحسين العلاقات مع الدول الخارجية، بدلاً من التجاوب مع المطالب الشعبية. وقد انتقدته منافسته مارين لوبن واصفة إياه بالزاحف على ركبتيه أمام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لأنه وصل إلى الرئاسة بدعم من البورصات وأسواق المال.. وقد انتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النشاطات السياسية التي دشنها ماكرون مع ميركل، لأنها تعيد إحياء الحلف الأطلسي الذي يمثل العدو الأقرب لنفوذ موسكو.. بالمقابل رأت السلطات الفرنسية أن موقف ترامب يُعد تدخلاً في شؤون لا تخص واشنطن. وصرح ماكرون قائلا إن بلاده لا تتدخل في شؤون أميركا الداخلية…. بقيت باريس بعيدة جداً عن الأرياف التي وصفها الرئيس بـ«فرنسا المنسية». لذلك عندما طلب منهم ماكرون دفع ضريبة إضافية على الوقود، تحول ذلك إلى «القشة التي قصمت ظهر البعير».
بقي السؤال المتعلق بمستقبل إيمانويل ماكرون، وهل الانتفاضة الحالية ستدفعه إلى الاستقالة كما فعل من قبله الرئيس شارل ديغول؟ لكن الذين يعرفون ماكرون يستبعدون تخليه عن منصبه بسهولة، وخصوصاً أنه يرى أن جماعة «السترات الصفر» «مجموعة مأجورة» تعمل لتصديع وحدة أوروبا .. هل تراجع أعداد المحتجين يؤشر إلى «بداية انطفاء حراك السترات الصفر». هل هي هدنة الأعياد أم «حراك مستمر»؟ الحراك مرشح لأن يعمر طويلاً على الساحة السياسية! هل أصبحت فرنسا العجوز هي الرجل المريض في أوروبا. أم هي رجل أوروبا المريض؟. الشاغل الأكثر إلحاحا لماكرون هو كيف يتعامل مع المحتجين الذين لا يتزعمهم أحد، إضافة إلى خطر الإرهاب في آخر هجوم في ستراسبورغ، التناقض الفرنسي الأساسي – المطالبة بضرائب أقل وخدمات عامة أفضل. وقد تصبح الأمور أسوأ بكثير. ومن المحتمل أن تستمر الاحتجاجات لعدة أشهر.
ذلك يشير لإشكال وحلقة شبه مفرغة، قد لا ينجح ماكرون في حلها. والسؤال هل ماكرون لديه رأس المال السياسي والقدرة لمعالجة هذه الأزمة التي جعلت فرنسا دولة عجوزاً في أوروبا الضعيفة المهددة بالتفكك؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن