الأولى

هل الانسحاب الأميركي هزيمة موصوفة؟

| بيروت – محمد عبيد

وإن اختلفت أو تعددت التحليلات والتفسيرات حول تنفيذ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتخذ منذ شهور عدة بسحب قوات بلاده من سورية، غير أن الواقع الأهم هو قرب خلو الأراضي السورية من الاحتلال الأميركي المباشر، ما يعني تسجيل هزيمة موصوفة لواشنطن في المنطقة يمكن أن تكون مدوية في حال تمت معالجة تداعياتها والأهداف الكامنة خلف القرار المذكور.
وأول الأهداف التي يمكن أن تتبادر للذهن هو تفجير مجموعة «أستانا» الثلاثية الضامنة: روسيا وإيران وتركيا من داخلها، وخصوصاً أن الأخيرة كانت تترقب اللحظة المؤاتية لتوسيع مساحة احتلالها في مناطق شمال وشمال شرقي سورية في ظل وجود الاحتلال الأميركي، فكيف بها اليوم مع إخلاء تلك المناطق لها بل أيضاً إغراؤها بإمكانية غض النظر وتوفير الدعم السياسي واللوجستي لها في حال تمكنت من التوسع فعلاً، وهو ما عكسته المعلومات الصحفية التي تم تداولها في غير محطة تلفزيونية أميركية حول مضمون المحادثات الهاتفية بين ترامب ورئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان. لذا تبدو الحاجة إلى تقييد يَديَّ أردوغان سياسياً ضرورة ملحة لئلا يأخذ منه الغرور والتهور مأخذاً قد يؤدي إلى خلط خطير لأوراق العلاقات والتفاهمات التي أنتجتها «أستانا»، خصوصاً في تلك المناطق الواقعة على خط التداخل بين الأردن وسورية من جهة وبين سورية والعراق وتركيا من جهة أخرى. والمشكلة أن رئيس النظام التركي بدأ يتوهم دور المنقذ للمواطنين السوريين عرباً وأكراداً مما يسمى «قوات الحماية الكردية» وغيرها من الحالات الانفصالية الكردية ومن تنظيم «داعش» الإرهابي، بعد أن كان قد أغرق الأراضي السورية بعشرات الآلاف من الإرهابيين الدوليين المُستقدَمين من جميع أصقاع الأرض.
في ماعدا هذا المُعطى التركي، من المفترض أن يدفع قرار الانسحاب الأميركي بعض الدول العربية التي كانت تنتظر ضوءاً أخضر من واشنطن لاستعادة علاقات طبيعية مع دمشق، أن يدفعها لإعادة تقييم مواقفها المجحفة تجاه سورية وشعبها وعدم الانتظار من جديد حتى نضوج ما يسمى «العملية السياسية» من خلال تشكيل «اللجنة الدستورية» التي قد تستمر أعمالها لإنجاز تعديلات على الدستور النافذ حالياً سنوات عديدة، هذا في حال رفعت الإدارة الأميركية الحواجز من طريق تشكيلها. وبذلك تجد هذه الدول لنفسها عذراً معنوياً يحررها من تعهدات كانت قد ألزمت نفسها بها أمام الراعي الأميركي أو في الغرف المُغلقة مع بعض ما يسمى منصات «المعارضة»، كما يُمَكِنُها من الاستجابة لرغبة شعوبها في استعادة التواصل مع أشقائهم في سورية قِبلَتُهم المفتوحة أبوابها دوماً لهم. وعندها تكون استعادة جامعة الدول العربية لعلاقاتها مع الدولة السورية أمراً تلقائياً وتفصيلياً في الشكل وجوهرياً في المضمون، ذلك أن العودة الإدارية لن تضيف شيئاً لقوة سورية التي كرستها بتحالفات خارج الإطار العربي، أما الدخول في قراءة مسببات الوهن الذي أصاب الجسم العربي نتيجة الارتهان للإرادة الأميركية والإسرائيلية والبحث في كيفية معالجته باستقلالية انطلاقاً من المصالح القومية الحقيقية وبشفافية تؤدي إلى تحميل المسؤوليات للذين عاثوا فساداً وتدميراً بهذا الجسم هي وحدها الكفيلة بإخراج هذه الأمة من نفق الارتهان والتبعية وتوهم الفرادة القطرية أو القدرة على ظلم العربي الآخر وقتله بما يخدم أعداءها، وهاهي الحالات التي مر بها العراق ولاحقاً سورية وبعدها اليمن ماثلة أمام أنظارنا حتى يومنا هذا، ناهيك عن الخطر الذي يتهدد قضية العرب المركزية فلسطين من خلال ما يسمى «صفقة القرن» أو الحلول الاستسلامية الإلغائية لها التي تبتدعها بين الحين والآخر العقول الصهيونية والأميركية في مراكز القرار في واشنطن.
الانسحاب الأميركي من سورية بما يعنيه من خروج سياسي قبل أن يكون عسكرياً من ملفات كثيرة مرتبطة بالأزمة في سورية تبدأ في إيران وتمتد إلى روسيا وتمر بالعراق ولبنان واليمن ليس حدثاً عادياً، بل هو انكفاءٌ لن يؤدي إلى تراجع النفوذ الأميركي المباشر في المنطقة فحسب بل ستكون له انعكاسات سلبية أكثر حدة على كل التابعين والمراهنين على الاستقواء بهذا النفوذ، وتركيا والكيان الإسرائيلي ليسا خارج دائرة هؤلاء.
اعتادت الإدارات الأميركية المتعاقبة الانسحاب من التزاماتها وذلك تبعاً لتبدل أولوياتها القائمة على المصالح أولاً، لكنها مع إدارتي الرئيس السابق باراك أوباما والحالي دونالد ترامب تقدم التخبط وعدم الوضوح على القدرة على إدارة المصالح، وبالتالي مهما حاولت واشنطن اليوم تغليف خطوة الانسحاب بمسميات رنانة تتعلق بحفظ دماء رجال قواتها أو تخفيف الأضرار على مصالحها، فإن ذلك لن يمنحها صفة «المنسحب المنتصر».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن