قضايا وآراء

ما هو مفقود

| مازن بلال

اتخذت «وحدات حماية الشعب» الكردي قراراً سياسياً بامتياز بإخلاء مواقعها للجيش السوري في منبج، فالمسألة العسكرية هي إجراءات فقط يمكن أن تسير بسلاسة في ظل التماسك السياسي ما بين الأكراد والدولة السورية، فعودة سلطة الدولة إلى منبج ستشكل واقعا مختلفا على مستوى الحل السياسي عموما، لأنها ستغير من طبيعة التمثيل في عملية التفاوض في جنيف أو في الوصول إلى لجنة صياغة الدستور.
ما حدث منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرار الانسحاب من سورية يمكن النظر إليه كفك ارتباط مع الأرض السورية وليس مع الأزمة، وهو إعادة توزيع القوة على الأرض لمصلحة الطرف التركي الذي سيجد هامشا أوسع للمناورة، ولفرض واقع يغير شكل التنسيق الثلاثي بين أنقرة وموسكو وطهران، ورغم الخوف من «الفراغ الأمني» فإن أشكال الاضطراب المتوقعة لا يمكن احتواؤها في شرقي الفرات إلا سياسيا، فإمكانية ضبط الأوضاع بدت صعبة رغم أن القوات الأميركية مازالت موجودة، فقرار الانسحاب شكل تغيراً في موازين القوى وخلق فراغا على مستوى اتخاذ المواقف، سواء من الأكراد الذين فقدوا الغطاء لسيطرتهم على الأرض، أو الأتراك الذين وجدوا أنفسهم أمام إمكانيات مفتوحة لتطوير دورهم على الأرض السورية.
عمليا فإن الوضع في شرقي الفرات ليس مسألة محلية مرتبطة بتركيا وبقدرتها على التدخل، فهو يشكل حسابات إقليمية لأنه سيؤثر في مجمل الشرق الأوسط، ويعبر عن توازنات في الأدوار لجميع دول الجوار الإقليمي، ورغم الانكفاء لمعظم الدول العربية تجاه الأزمة السورية إلا أنها تدرك، وعلى الأخص دول الخليج العربي ومصر، أن الجموح التركي سيؤدي في النهاية إلى تبدلات إقليمية عميقة، ومن هذه الزاوية يمكن فهم التحركات السريعة التي حدث بعد القرار الأميركي، سواء على مستوى القناة السورية المصرية التي بدت «أمنيّة» لكنها خطوة لـ«هندسة» العلاقات، أو بزيارة الرئيس السوداني عمر البشير، وأخيراً في استعجال عودة فتح سفارة الإمارات في دمشق.
بدت الترتيبات الإقليمية تسير نحو استرجاع الدور العربي إن صح التعبير ضمن السياق الدبلوماسي، وذلك بعد سنوات من النظر إلى سورية كمساحة لصراع الأدوار من أجل محاصرة إيران فقط، وتغير المعادلة الإقليمية كليا من خلال إحداث انقلاب في منظومة التحالف بين طهران ودمشق، فالعلاقات العربية المستجدة لا تعني أن النظام الرسمي العربي استرجع فعاليته، بل هي تبدل السلوك العام تجاه الأزمة السورية، والتركيز على الدور التركي وتحالفه مع كل من روسيا وإيران.
إن ترتيب فوضى الأدوار العربية في سورية سيستغرق زمنا ليس بالقصير، لكنه بالنسبة لدمشق ضروري لاسترجاع التوازن الذي يمكن أن تستخدمه في بناء سياستها الداخلي، وفي رسم علاقات إقليمية ودولية، فهي اليوم لم تعد أمام أطراف داخلية تحمل مشاريع إقليمية، بل أمام دول تسعى عبر الدبلوماسية للتعامل مع دمشق من أجل رسم توازن للمصالح، وبهذا الشكل فإن مسار الأزمة السورية بدأ يتخذ صيغة أكثر مرونة لكنه في الوقت ذاته لرؤية الحل السياسي.
شكل قرار الأكراد نموذجاً مهماً لطبيعة استيعاب المخاطر، ويمكن سحب هذا الأمر على كامل المساحة السورية، فما هو مفقود هو «التواطؤ الإيجابي» السوري السوري للحد من التدخلات الخارجية، وبناء علاقة سياسية داخلية منتجة ومتسارعة، فتسليم منبج لسلطة الدولة والتعامل مع هذا الموضوع على أنه جزء من صيانة السيادة سيفتح إمكانية رسم أفق سوري مختلف، لأنه يسترجع صيغة سياسية قادرة على كسر معادلة الاضطراب المستمرة منذ أكثر من ثماني سنوات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن