ثقافة وفن

حمامات دمشق مفخرة تراث وصفوة تاريخ…وليد بن عبد الملك: تفاخرون على الناس بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم

منير كيال : 

اشتهرت دمشق بحماماتها العامة التي تعود إلى مختلف العهود والعصور، وتدلنا الأوابد الأثرية على جمال هذه الحمامات، وكان لهذه الحمامات أهمية في الحياة الاجتماعية كنواد رياضية، وثقافية وأماكن اجتماعات يتبادل فيها الناس مختلف الأحاديث.. فضلاً عن الاغتسال، كما تدلنا بقايا أقنية الماء المنتشرة بسورية على مدى اهتمام أجدادنا بإيصال المياه النظيفة إلى الحمامات.
وقد كثرت الحمامات العامة في سورية بالعصر الروماني وكانت مبانيها من روائع فن العمارة السورية، ومنها ما كان بأنطاكية وأفاميا وتدمر وبصرى الشام وشهبا.
وكانت هذه الحمامات في ذلك الحين، من ثلاثة أقسام هي البراني والوسطاني والجواني فضلاً عن الاقميم «القميم».
وقد عرفت دمشق بحماماتها العامة وكان الدماشقة يفخرون بها زمن الأمويين، حتى إن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك تحدث إلى أهل دمشق لما بنى الجامع الأموي بقوله: «تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فأردت أن مسجدكم هذا الخامسة».
وكان اهتمام المؤرخين بهذه الحمامات كبيراً، لاعتبار النظافة من الإيمان، وأول من تكلم عن الحمامات الحافظ ابن عساكر في تاريخه، فذكر أن بدمشق سبعة وخمسين حماماً، ثم جاء بعده ابن شداد، فزاد عليها حتى بلغ عددها في أيامه خمسة وثمانين حماماً، وذكر الاربلي أن عددها بدمشق وما حولها مئة وسبعة وثلاثون حماماً وكان عددها أيام ابن عبد الهادي مئة وسبعة وستين حماماً، وقد اشتهرت هذه الحمامات بالشرق كله وكان منها ما هو من روائع الفن الإسلامي بطراز عمارته وغنى زخارفه ونقوشه. وبخاصة ما كان منها يعود إلى العهود الأيوبية والمملوكية والعثمانية، وهذا ينسحب على الحمامات الدمشقية ذلك أن الحمام الدمشقي يقوم على قواعد هندسية غاية في الدقة، أكان ذلك بجناح البراني والوسطي والجواني أم بالاقميم مكان تسخين الماء للمستحمين.
يشكل البراني باحة مسقوفة بعقود تتلاقى بقبة نوافذها مزخرفة بتقسيمات هندسية مما يعرف بالخيط العربي، وهذه النوافذ مزججة بزجاج ملون فتمر بها أشعة الشمس بألوان زاهية رائعة.
ويتوسط أرض هذا البراني بحرة «بركة» تتشامخ من نافورتها المياه، أما جدران البراني فمزينة برسوم مناظر تكاد تدب بها الحياة، إضافة إلى المرايا والسجاد، والأشعار والحكم وعبارات الترحيب بالزبائن، وقد نصبت على جوانب البراني مساطب فرشت بالأرائك وجللت بالفوط والمناشف المزركشة أو المقصبة.
في هذا القسم يخلع المرء ثيابه قبل الاستحمام، ويرتديها عقب الاستحمام، كما يمكن أن يكون هذا البراني المكان الملائم للمجالسة والمسامرة وإقامة حفلات المناسبات.
أما الوسطاني فهو بهو معتدل الحرارة مسقوف على الأغلب بعقود ذات فتحات مستديرة تعرف الواحدة منها باسم القمرية، ومهمة هذه القمريات توفير الضياء للوسطاني بالنهار.
على جانبي الوسطاني مساطب يستريح عليها المستحمون خلال مراحل الاستحمام، كما أن في جانب من الوسطاني مقصورة النورة لإزالة الشعر، وفي هذا الوسطاني قد يتناول المستحمون طعامهم وخاصة طعام مناسبات الأفراح، ويطلق على القسم الحار من الحمام اسم الجواني، وهو القسم المخصص للاستحمام.
وهو على شكل ايوانين متقابلين يتوسطهما ممر بيت النار بعرض «1-1.5»م وتحت بلاط هذا الممر تجري المياه الحارة في طريقها إلى أجران الاستحمام، ونجد عند بداية ممر بيت النار مسطبة تتصل بكوة تؤدي إلى مكان تسخين مياه الاستحمام، ويجلس على هذه المسطبة المستحمون المصابون بوعكة مرضية ناشئة عن البرد.
وفي زوايا كل من ايواني أجران تنساب إليها المياه الساخنة والمياه الباردة حيث يجلس الراغبون بالاستحمام من عامة الناس، أما الخاصة من الراغبين بالاستحمام فيستحمون في مقاصير «غرف» منفردة تتفرع عن ايواني الجواني، أما سقف الجواني والمقاصير المتفرعة فإنها تنار بالقمريات التي بالسقف مما أشرنا إليه بسقف الوسطاني.
وأرض الجواني مبلطة بالرخام الوردي المكحل بأميال من الحجر الأسود، وكثيراً ما تحتل الوسطى من أرضية الجواني وأرضية المقاصير المتفرعة عنه تربيعات وتشكيلات من الرخام المشقف، بأشكال بديعة.
وقد أصبحت هذه الحمامات بما فيها من أجران مياه موضوعاً طريفاً للشعراء والكتاب، وكان العرق المتصبب من أجسام رواد الحمام، مثاراً لقرائح الشعراء، ومن ذلك:
لم أبغ بالحمام طيب تنعّم
أفنى البكاء دموع عيني أجمعا
فبكيت أسى بجسمي كله
حتى كأن لكل عرق مدمعا
فضلاً عن ذلك، فقد أضافت أبنية الحمامات إلى فن الريازة (العمارة) العربي الكثير من الغنى والجمال، بما حوته، وما أُبدع فيها من نقوش وزخارف زينت بها الأرض والجدران فضلاً عن المقرنصات في زوايا الجدران وعقود الأبواب.
أما العاملون بالحمام في فترة استحمام الرجال، فإن عددهم يتوافق مع اتساع الحمام وعدد مقاصيره، ومستوى رواده الاجتماعي، ولكل من هؤلاء عمل لا يتعداه، فالعامل في الحمام يبدأ أجيراً ثم تابعاً (تبعاً)، ويترقى بالصنعة حتى يصبح ريسا وناطوراً ومعلماً صاحب حمام.
فالمعلم هو صاحب الحمام، أو مموله ومستثمره، يجلس بالبراني من الحمام على دكة تسمى تخت المعلم، وهو يرحب بالوافدين للاستحمام، طالباً من الناطور والأجير حسن الاستقبال، ويبارك للمستحمين استحمامهم ويتقاضى أجر (وفاء) الاستحمام.
أما الناطور، فهو الذي يستقبل الراغب بالاستحمام، طالباً من الأجير أن يقدم للزبون ما يعرف بالتعتيبة، فيسارع الأجير ويفرش للزبون فوطة فيضع الزبون عليها حاجاته، ريثما يُتم الزبون خلع ثيابه، فيقوم الناطور ويفرد فوطة تسمى الماوية أمام وسط الزبون، فإذا أنجز الزبون خلع ثيابه، يلف الناطور فوطة الماوية المذكورة على خصر الزبون، كما يلقي على كتفي الزبون فوطة تسمى الظهرية، وفوطة ثالثة يضعها الناطور على رأس الزبون تسمى الرأسية.
ثم يتقدم الزبون من المعلم فيودع عنده حاجاته من الساعة إلى حافظة نقوده (الجزدان) وما شابه، فيحفظها له المعلم بصندوقه ريثما يتم الزبون استحمامه.
وللريس دوره باستحمام الرجال، فإذا دخل الزبون إلى القسم الوسطاني من الحمام، يستقبله التبع، ويسأله عما إذا كان الزبون يريد الاستحمام منفرداً، أم بمساعدة ريس الحمام.
فإن كان الزبون يريد الاستحمام منفرداً، صحبه التبع إلى أحد أجران الجوّاني، وإذا الزبون يريد الاستحمام بمصاحب الريس، صحبه التبع إلى مسطبة بيت النار بالجواني «الحرارة»، ويقدم له آنية مملوءة بالماء الساخن، ينقع بها الزبون قدميه كي يتحلل تعب الزبون، ثم يصحب الزبون التبع إلى مقصورة الصنعة حيث يكون الريّس باستقباله.
يجلس الريّس مقابل الزبون ويتناول كيساً من الغزل أو الوبر يدخل الريس يده فيه كالقفاز، ويشرع بتمرير الكيس على جسد الزبون مع بعض الضغط، حتى يزيل عن جسم الزبون «المستحم» جميع مفرزات جسمه، ثم يغسل ذلك بالماء الساخن، وتسمّى هذه العملة باسم التفريك، تأتي بعد ذلك مرحلة تحميم الرأس بالصابون والماء الساخن، وبعد إنهاء تحميم رأس الزبون عدداً من المرات تأتي مرحلة الليفة لجسم الزبون بالماء الساخن والصابون حيث يزقزق جسم الزبون، دلالة على النظافة التامة.
وبعد الانتهاء من استحمام الزبون من تفريك وتغسيل وتلييف يبارك له الريس إنجاز استحمامه، فيسارع التبع إلى تنشيف جسم الزبون المستحم، والقيام بوضع منشفة الماوية على خصر الزبون ومنشفة الظهرية على كتفي الزبون، ومثلها على رأس الزبون، ويخرج بالزبون إلى القسم الوسطاني من الحمام حيث يكون الناطور بانتظاره مباركاً، وبعد أن يستريح الزبون «المستحم» بعض الوقت على مسطبة الوسطاني يعمد الناطور خلالها إلى تبديل المناشف التي على جسم ورأس المستحم بمناشف جديدة يخرج الناطور بالمستحم إلى الجناح أو القسم البراني من الحمام، فيجلس المستحم على مسطبة البراني، ويقدم الناطور مناشف أخرى مع منشفة يضعها على فخذي الزبون تسمّى منشفة المقدم، ومنشفة أخرى على كتفي الزبون تسمى المراية.. وهذا كله يكون إكراماً للزبون، وخاصة إذا كان ذلك الزبون أو المستحم ميسوراً.
وبالطبع يقدم للزبون خلال ذلك الشاي أو المرطبات، وبعد ذلك يأتي التبع للمستحم ببقجة ملابسه يساعده على ارتداء هذه الملابس، ويساعده على انتعال حذائه «ترجيله».
بعد ذلك يعمد المستحم إلى مغادرة الحمام بعد أن يأخذ حوائجه من عند المعلم ويدفع أجر «وفاء» استحمامه، وكذلك الإكراميات لكل من قام بخدمته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن