ثقافة وفن

تنتسب لغتنا الفصحى إلى مجموعة اللغات السامية … محمد محفّل: بلاد الشام مباركة… وهنا نُبّئ الراهب بحيرا حيث نشأت الدولة الأولى الكبرى

| سوسن صيداوي

صفائح التاريخ والألواح الطينية وأوراق البردي وغيرها مما ترك لنا أجدادنا عبرها، بالأخبار والعلوم والحيوات التي عاشوها، كلّها وثائق بقيت وستبقى كي يهتم بها كل توّاق وعاشق للمعرفة. من غادرنا جسدا، هو رجل علم بامتياز، وباحث ومؤرخ، عشق اللغات القديمة، وأبحر بها عبر التاريخ، كي يمنحنا من عطائه علما-لكل موروث سوري-ننهله لأجيال وأجيال قادمة. إنه الباحث الآثاري الدكتور محمد محفّل الذي غيبه الموت عن عمر ناهز 90 عاماً، بعد مسيرة علمية حافلة قضاها في البحث والتأليف والتدريس. اليوم نقف بكلمات شكر، وبتذّكر بعض مما قاله في اللغة العربية والآرامية، إضافة إلى المزيد.

معاون وزير الثقافة
بداية أعرب معاون وزير الثقافة علي المبيض-في تصريحه-عن بالغ الأسى والحزن لخسارتنا لقامة منيرة بالعلم والمعرفة، وخلال حديثه ذكر المؤهلات العلمية للراحل وما شغله من أعمال، إضافة إلى بعض الصفات الشخصية التي تحلّى بها، انتشر طيبها بين طلابه وأصدقائه، قائلاً: «لابد لي من القول بأن الدكتور محفّل، هو من أهم المؤرخين والمعماريين السوريين، الذي غادرنا وترجل مؤخراً عن فرسه. إنه من أبناء حلب ولد في عام1928، ومؤهلاته العلمية المتنوعة مكّنته من العمل الوظيفي: كأمين سر لجنة كتابة التاريخ العربي، ورئيس تحرير مجلة دراسات تاريخية لعشرة أعوام تقريباً، ومحاضر في كلية الآداب-جامعة دمشق، ومحاضر في كلية الفنون الجميلة-جامعة دمشق، وأيضاً محاضر في كلية هندسة العمارة-جامعة دمشق، وأستاذ زائر في الجامعة الأردنية-عمان لمدة ثلاثة أعوام تقريبا.
هذا والكل يعرف بأنه أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والدراسات المهمة ومنها:تاريخ الرومان، تاريخ اليونان، تاريخ العمارة، مدخل إلى اللغة الآرامية، مدخل إلى اللغة اللاتينية.
وبالطبع الباحث د. محمد محفّل كان قامة علمية وفنية وثقافية مهمة، كتب في التاريخ والفنون والهندسة المعمارية وتاريخ العمارة.
إنه باحث متعدد المواهب، خلوق، متواضع. رحل عنا وبقي عاشقا لسورية، ومحب للآخرين، معطاء لكل من يطلب منه المساعدة، فهو يتمتع بأخلاق العلماء.
لقد كان الدكتور محفّل الأمين على التاريخ في شتى الميادين، حيث قضى سنوات عمره التسعين في البحث والتأليف والتدريس، وكان الأب الروحي للأكاديميين العاملين في ميدان التاريخ والعمارة والآثار.
في الختام تشكل وفاته خسارة كبيرة لجامعة دمشق وللأجيال العديدة التي درّسها، وبالتأكيد سوف يمر وقت طويل قبل أن تعوّض، ولكن يحدونا أمل كبير بأن سورية العظيمة بلد ذو تاريخ عريق، فكما أنجبت الدكتور محفّل، ستنجب بالتأكيد عظماء يواصلون مسيرة عطائه».

د. سامي مبيض
من جانبه أخبرنا الكاتب والمؤرخ ورئيس مجلس أمناء مؤسسة تاريخ دمشق، الدكتور سامي مبيض، عن لقائه الأول بالمؤرخ د. محفّل وبالمناسبة التي جمعته به. قائلاً «في بداية الأحداث التقيت الأستاذ محمد في إحدى محاضراته في مركز الترميم والتأهيل في جامعة دمشق(بيت فخري البارودي) بحي القنوات. كانت الأوضاع الأمنية في المدينة سيئة جداً، وصواريخ الهاون تتساقط من حولنا، ولكن الأستاذ لم ينقطع يوماً عن طلابه، وظل متفائلاً أن ما كان يحدث يومها في دمشق ليس نهاية للكون، بل مجرد «لحظة» في تاريخ سورية، وسوف تنسى كما نسيت غيرها من محن. سألته سؤالاً كنّا جميعاً نتعرض له في حينها: «هل أنت باق في دمشق؟».
أجابني مبتسماً: «العاصفة تقتلع الأشجار العالية، ولكنها لا يمكن أن تقتلع الحشيش، مهما اشتدت رياحها. أنا مثل الحشيش، باق هنا».
في عالم مملوء بالمتغيرات، كان الدكتور محمد هو الثابت الوحيد بيننا. كان ملهماً ومعلماً وأباً لأجيال وأجيال من المؤرخين السوريين. لقد غاب عنا جسداً فقط ولكنه باق في أبحاثه ومحاضراته وعلومه.

د. علي القيم
في حين أعرب د. علي القيّم عن أسفه وحزنه البالغ لرحيل الباحث، ناشراً على صفحته على الفيسبوك «رحل عنا المفكر والباحث التاريخي الكبير الدكتور محمد محفّل، الذي ترك إرثاً حضارياً غنياً، ومؤلفات قيّمة في تاريخ وحضارة سورية الخالدة، وتاريخ الشرق والعالم القديم.
لقد كان الراحل الكبير معطاءً حتى آخر أيامه، قدم للمكتبة العربية عشرات الكتب والمؤلفات والدراسات، التي تعد مراجع مهمة لكل باحث في تاريخ الشرق القديم، وكان أستاذا جليا في جامعة دمشق/قسم التاريخ، وقد استفدنا ونهلنا من علمه وأبحاثه ودراساته القيّمة.
وأنا سعيد لأنني نلت شرف مشاركته في أبحاث الندوة الفكرية والحضارية الكبيرة التي حملت عنوان: «مهرجان الشام.. حضارة وإبداع» والتي عُقدت في دبي_بين 13 و17تشرين الثاني عام2005، وقد كان بوقتها عنوان محاضرته «سورية من فجر التاريخ إلى الحضارة المدنية». أما مشاركتي فكانت حملت عنوان «سورية مليون سنة ثقافة».

في اللغة العربية… قال الراحل
جاء في دورية «كان التاريخية» في العدد السابع؛ آذار 2010 وتحت عنوان العربية: لغة وكتابة، كتب د. محفّل«لا حاجة بنا إلى القول بأنه لا لغة بلا مجتمعٍ، كما أنه لا وجود لمجتمع بغير لغةٍ، ومن نافلة القول أيضاً أن نقرّر الصعوبات التي تعترض سبيل الباحثين وذوي الاختصاص، لمعرفة تاريخ ومكان وكيفية نشوء «اللغة الأولى» لبني البشر. فهذا ليس قصدنا ولا مجال لذلك في عجالتنا هذه. وقد يصعب على الباحث معرفة متى وأين وكيف بدأت اللغة، إلا أننا لا نعدو الصواب، إذا قلنا:إنها بدأت عندما تكونت أول جماعة إنسانية في هذا الوجود، ولا نعدو الصواب أيضاً إذا قلنا:إن الجماعة الإنسانية الأولى-أياً كان طابعها- عندما تكونت صحبت معها مشاكلها الخاصة، الناتجة عن علاقات الأفراد بعضهم ببعض، والناتجة عن علاقة الإنسان بالبيئة والطبيعة. تنتسب لغتنا «العربية الفصحى» إلى تلك المجموعة اللغوية، التي أطلق عليها تجاوزاً اسم «اللغات السامية». وهي اللغات واللهجات التي تكوّنت في مختلف أصقاع وطننا العربي القديم اعتباراً من الألف الرابع(ق. م)».
في الآرامية اللغة… قال: في حوار كان أجري مع الراحل د. محفّل في برنامج «أجراس المشرق» على شاشة الميادين، تحدث خلاله عن أصل الحرف الآرامي وما علاقته بما قبل، وما علاقته بما بعد قائلاً: الواقع، كما نعلم، كان الآرامي أو ما أخذ عنه أن السرياني والنبطي والتدمري كان مأخوذاً عن تلك الأبجدية التي وجدناها على قبر أحيرام.. في جبيل.
أخرام: الأخ الكبير. أحيرام، ماذا يعني؟ له معنى. أح: أخ، رام: كبير. قبر أحيرام، بترتيب أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت، 22 حرفا زائداً ستة حروف روادف هي (بـج د ك ت ف) تُلفظ على شاكلتين، أي أصبح لدينا 28 حرفا. هذه مأخوذة عمن أبدعه أقرباؤهم الكنعانيون الفينيقيون بالنسبة للإغريق. وأخذوا هذا الحرف وطوّروه وأوجدوا له كتابة معيّنة.
ما أُخذ في البدء، كل حرف أوجدوا له معنى أقول ذلك لأوضح لبعض مَن زعم أن هذه الحروف قد تكون أتت من قبرص أو من غيرها».
وحول الجذر الآرامي للإنجيل في لغته وفي الثقافة العامة أوضح «البعض يظنّ أن ما كان في فلسطين قبل الآرامية هو العبريّة. لقد نشرنا وكتبنا وأوضحنا مرارا، واستنادا حتى إلى ما جاء في أسفار التوراة، أنهم كانوا تبنَّوا لغة أهل الأرض أي تبنَّوا الكنعانية بلهجة العهد القديم، لا أكثر ولا أقلّ. إذاً ما جاء به الآراميون هو قريب مما كان لدى سكّان فلسطين القدماء على اختلاف مذاهبهم ودينهم. هذه نقطة. من الواضح أن أكثرية الحواريين هم من الآراميين». متابعاً في مكان آخر«اذهب إلى معلولا. أنا ممن أنشؤوا معهد تدريس لهجة السيد المسيح. وكانت بعض الإشكاليات، البعض لم يفهمني. أنا لا أريد أن أدرّس السريانية ولا الآرامية القديمة. آرامية القرن الأول الميلادي التي وُجدت في عصر السيد المسيح هي لغتنا. وهذه الكتابة في نقوش تدمر. هي في تدمر بترتيب: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت بذات الشكل مع تطوّرها. وطبعا كما نعلم بالنسبة للمسيحية اليوم، المعروف أن إنجيل متّى مكتوب بالآرامية. باقي الأناجيل باليونانية. لا ندخل في التفاصيل متى وُضعت. ولكن اللهجة الآرامية كانت لهجة أهل الأرض، تفرّعت، بدءا من الإسكندر المقدوني. بدأت تأخذ الآرامية مناحيَ أو لهجات». وكان ودّع المتابعين من المشاهدين بهذه الجملة خاتماً «هنا فلننتبه: بلاد الشام مباركة. وهنا نُبّئ الراهب بحيرا وإشارة النبوّة. أنا لا أتكلّم في التاريخ، ولكن كما جاء. هذه دلالة على ما هو لـبلاد الشام حيث نشأت الدولة الأولى الكبرى».

قيل في الراحل
في مناسبة تكريم جامعة دمشق للمؤرخ الراحل د. محفّل في بيت فخري البارودي الأثري بدمشق. أكد حينها الدكتور محمد يحيى معلا وزير التعليم العالي السابق أن التكريم هو نتيجة طبيعية لما قدمه الدكتور محفّل من إضافة علمية ومعرفية للمكتبة العربية وفي سبيل الإنسان وبنائه في مجالات كثيرة ومنها تاريخ اللغة أو الفن والتراث.
وأشار إلى أن الدكتور محفل عمل طوال حياته في خدمة المعرفة العلمية والثقافية وخاصة في إرساء القواعد الأساسية من الحضارة والتاريخ العربي وما يتعلق بالتراث الدمشقي العريق، مؤكداً أن سورية الوطن الأصلي للثقافة العلمية والمعرفية والحضارية ود. محفّل أحد رموز هذه الثقافة والمعرفية، موضحاً بأن هناك محاولات قديمة لتشويه التاريخ العربي وإعادة كتابته بمنحى آخر مؤكداً أن سورية ستبقى كما كانت عبر العصور مهد الحضارة والمعرفة العلمية ومهد الإنسان المخلص بتفانيه وعلمه.
وفي المناسبة نفسها كانت بينت د. لبانة مشوح وزيرة الثقافة السابقة أن الموقع والشخص متلازمان، حيث إن منزل السياسي والمفكر والصحفي فخري البارودي له قيمة تراثية حضارية، كما أن الدكتور محفل عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ جامعي ومؤرخ وعالم باللغات القديمة، وهو مترسخ بالشرق وحضاراته ومتبحر بالحضارات المتعاقبة على سورية.
بطاقة تعريف

– وُلد الدكتور محمد محفّل في حلب عام 1928.
– تابع المرحلة الابتدائية والإعدادية في معهد «الإخوة المريميين Les Freres Maristes».
– بعد إغلاق المعاهد الفرنسية في عام 1945، تابع الدراسة الإعدادية والثانوية في مدرسة التجهيز الأولى في حلب (المأمون) وحصل على شهادة الكفاءة والبكالوريا الموحدة 1947/1949.
– درس في المعهد العالي للمعلمين وكلية الآداب/ قسم التاريخ عام 1949، ونال إجازته في التاريخ ودبلوم علم النفس وعلم التربية في حزيران 1953.
– درّس في ثانويات حلب1953/1954.
– أوفدته وزارة المعارف إلى جامعة السوربون لتحضير الدكتوراه في التاريخ القديم، فتابع حلقات في اللغة الآرامية والتاريخ الآرامي وانتسب إلى معهد اللوفر لدراسة اللغة الآرامية، وتابع اللغتين اللاتينية واليونانية..
– جراء علاقته بالجزائريين طلبت منه السلطات عام 1956 مغادرة فرنسا، فتابع دراسته في جامعة جنيف وسجّل أطروحة الدكتوراه في التاريخ القديم بعنوان «دور الرقيق في انحطاط الإمبراطورية الرومانية».
– منحته جامعة الدراسات الإسلامية في كراتشي درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف.
– درّس في قسم التاريخ في جامعة دمشق اللغات الكلاسيكية والآرامية والتاريخ القديم.
– عمل أستاذاً زائراً في جامعة عمّان.
– أسهم في تأسيس لجنة كتابة تاريخ العرب.
– ترأّس تحرير مجلة «دراسات تاريخية».
– أشرف على تنظيم ندوات ومؤتمرات سورية وعربية ودولية.
– انتُخب في تشرين الأول عام 2008 عضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق.
– من مؤلفاته: تاريخ الرومان، تاريخ اليونان، المدخل إلى اللغة الآرامية، تاريخ العمارة، الدولة والمجتمع في المغرب، دمشق: الأسطورة والتاريخ، من ذاكرة الحجر إلى ذكرى البشر.
– منحه الرئيس بشار الأسد عام 2012 وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة لإنجازاته العلمية المهمّة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن