ثقافة وفن

وقفة مع خمس مجموعات قصصية … أحاديث شائقة وحوارات عميقة في قصص حياة السوريين كما يراها الكاتب الصحفي حسن م. يوسف

| سارة سلامة

بعنوان خمس مجموعات قصصية خط الكاتب المبدع حسن م. يوسف كتابه الذي صدر أخيراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ويمثل من خلاله تجربة نوعية في القصة القصيرة، بما يشتمل عليه من موضوعات تنشغل بالإنسان ومعاناته وشجونه ومكابداته وخيباته وأحلامه أيضاً، وبما توظفه من تقنيات فنية عالية في السرد القصصي، تحقق التشويق والمتعة والمعرفة العميقة بالحياة ودواخل النفس البشرية ونوازعها ودوافعها، مصورة حياة البسطاء في الأرياف والمدن السورية عبر صراعهم بين ما يحلمون به وما تفرضه عليهم شروط حياتهم القاسية، منتصرة في النهاية لقيم الحب والعدل والجمال، وفي ذلك كله تكمن أهميتها الاستثنائية.
وجاءت مجموعته القصصية تحت عناوين متعددة وهي: «العريف غضبان، وقيامة عبد القهار عبد السميع، والآنسة صبحا، وأب مستعار، والساخر يخرس».

الاستفتاح

وحسب يوسف فإن هذه القصص منشورة حسب تسلسها الزمني، حيث يقول في الاستفتاح: «يومها كنت طالباً في مدينة جبلة الساحلية، كنت في كل صباح أروح إلى الكراج أنتظر زوادتي ومصروفي اليومي ورسائل إخوتي.
وذات صباح كانوني عاصف كنت في طريقي إلى الكراج وعندما وصلت أمام دار البلدية ناداني رجل من قريتنا- لن أذكر اسمه لأنه لا يزال حياً حتى كتابة هذه الكلمات- سحبني تحت المطر إلى مدخل بناء خال، سلم علي بود وجفف يديه ببطانة معطفه ومسح شاربيه الشائبين المبللين بكمه وقال لي وهو يرتجف:
«اسمع يا ابن أخي، كرمى لروح أمواتك لا تضحك عليّ».

قلت له مطمئناً:
«ولو يا خال (..) من يضحك عليك يعدم شبابه! خير إن شاء الله؟»
أخرج من جيب معطفه الداخلي نصف ظرف على زاويته ترويسة باللون الأحمر، خمنت محتواه فوراً، سألته بعد أن يئست من أين أبدأ الكلام:
-«ما قصة هذه الصور يا خال؟»

-قال لي متلعثماً:
– «أتعرف ابني (..)؟ سيتقدم للشهادة المتوسطة هذه السنة، جئت لحضور محكمة ضبط الأحراج الذي كتبه المأمور بـ«خزنة» في العام الفائت، اللـه يخرب بيته، فأعطاني ابني الوصل حتى آخذ له صوره..
شف لي بالله عليك يا ابن أخي، هل هذا ابني؟».
كانت الصور لرجل مربوع أصلع جاوز الثلاثين ذي شاربين كثيفين وعينين كبيرتين وفم كبير فلم أستطع كتم ضحكتي:
-«ما هذا يا خال؟! وحق الرب لا يساوي ابنك فخذ هذا الرجل؟! كيف أخذتها؟!»

-قال لي وقد احمر من الخجل:
-«وخزني قلبي والله. أي والله وخزني قلبي».
دخلت وحدي فقد خمنت ما حدث. كنت أعرف صاحب الاستديو فرحب بي لكنه ما أن رأى الصور بيدي حتى خرج عن أطواره وأخذ يصرخ:
-»شيء يجنن! واحد لا يعرف صورة ابنه! نزع صباحي! دوخني! نبشت له كل الصور! العمى! لن أرجعها! خله يطق ويبلط البحر!»
كان منكمشاً قرب الباب، سحبته من يده ومضينا.

وقبل أن نفترق سألته:
-«هل هذه صورة ابنك؟»
فنظر إليّ بغموض وخجل وقال:
-«تشبهه، أي نعم تشبهه».
فإلى الرجل الذي لم يعرف صورة ابنه في تلك الصباحية العاصفة.
إلى الأحبة المقهورين، الأميين المسحوقين، يدي وقصصي.
إعادة توضع

وفي المجموعة الثانية «قيامة عبد القهار عبد السميع» وتحت عنوان (إعادة توضع) ذكر يوسف ومن خلال عنوان فرعي باسم «إعادة توضع» قائلاً: «رائحة الشراشف النظيفة التي أحضرتها من البيت والحمام الساخن الذي أخذته قبل النوم أضفيا على ليلتي نكهة منزلية، فرأيت قبل الفجر حلماً لم أر مثله منذ أن فرزت، (نمشي في سهل فسيح يغطيه عشب طري مبلل، ردفانا يتناقران على إيقاع خطانا وأوراق العشب ترشق أقدامنا بحبيبات الندى، يدي على نقرتها الدافئة- يا لنعومة الزغب!- ذراعها يلفني ضاغطاً، جانب صدرها على جانب صدري، أخذت شفتها السفلى ثم العليا.. وعندما أردت التعمق بين شفتيها المالحتين، طلع علينا من خلف شجرة تصل الأرض بالسماء، رجل يرتدي خوذة ذهبية ويحمل جفت صيد..)
النكهة المنزلية جعلت مزاجي خفيفاً كما في صباحات السنة الأولى من الجامعة فلم أشعر بانضغاط قضبان السرير على أضلاعي إلا عندما اندفع زميلي إلى البراكية هاتفاً:
«يخرب بيتك. بعدك نايم والدنيا مقلوبة!»
اقتحمني المكان قبل أن أفتح عيني، أدخلت نفسي في الكنزة والسترة بسرعة- تعودت مؤخراً أن أخلعهما وألبسهما معاً مثل أغلبية الشباب- قلت وقد عاد مزاجي إلى حالته الكثيفة:

«شو فيه؟»

«بدأ الاجتماع والمعلم يسأل عنك».
أدخلت قدمي في البوط شاداً لسانه فانغلق عليها بفضل رباط المطاط الذي نصحني به أحد المساعدين، قلت وأنا أضع البيريه فوق رأسي بخفة:
«استنفار؟»
هز سليم كتفيه وطرفت عيناه بقلق، لم نركض، فذلك لا يليق برتبتنا، إلا أن التوتر جعل مشينا ركضاً.

السهّيرة

وفي مجموعة الآنسة صبحا كان عنواناً آخر باسم «السهيرة الذي قال فيه: «انشق الباب عن عارف بن حبابة فتبعته فتائل الثلج المدوّمة إلى الداخل، فتل في مكانه ليتمكن من إغلاق الباب، ثم أخذ ينفض الثلج عن معطفه السميك ذي الأزرار النحاسية الذي استبقاه لنفسه من أيام الخدمة العسكرية. نقز حميدان شحود، قال:
«يقطعك الله، دق الباب! قطعت قلوبنا، فايت طحش متل الضبع! أجابه عارف وهو يرتجف موحوماً:
«أحووح.. شببوا النار.. شببوها اللـه لا يحرمكم منها لا دنيا ولا آخرة! دخيلك يا رب لا تأخذنا بقلة عقولنا! أما تلجة مهولة.. تلجة عظيمة تحاكي فورة التنور».
ضحك الرجل من هيئة عارف. فقد كانت فتائل الثلج عالقة بحاجبيه وشاربيه، أما سيجارة اللف المتدلية من زاوية فمه اليسرى فقد حافظت على قوامها بسبب البلل رغم احتراق معظم التبغ الذي في داخلها.

الساخر يخرس

وبعنوان «الساخر يخرس» قال يوسف: «في كل مرة يدخل فيها إلى مكتبي، تنتابني رغبة عارمة لأن أهشم رأسه بأي شيء تطوله يدي» يقول رئيس التحرير بانفعال (.. لكنه ما إن يقف أمامي لاوياً عنقه، وهو يصغي بإخلاص، معترفاً بذنبه، من دون مداورة وفي عينيه تلك اللحظة الخالية من العكر، حتى ينكمش شعوري بالغيظ فأكتفي بتوبيخه مظهراً له سوء ما فعل، وعندما يكتشف الإحراج الذي سببه لي وللعمل، يصفر ضارباً جبينه براحته، مبدياً أسفه بإخلاص، فيتبدد شعوري بالغضب، وتتقلب نقمتي العارمة عليه، إلى شعور مفاجئ بالتعاطف معه، وهكذا أصرفه بلطف وأنظر إليه وهو يخرج كما لو أنه طفل نطق لتوه بكلمته الأولى.

صحيح أنه يخلق حالة من الارتباك في أي مكان يحل فيه فهو مزيج من المغفل والعبقري، لكنني كلما قررت أن أطرده أتراجع عن ذلك في اللحظة الأخيرة.
وفي كل مرة ازداد قناعة أننا بحاجة لوجود شخص مثله بيننا».

يخيم صمت عميق بين رئيس التحرير حسين، وأمين تحريره عوني الواقف أمام مكتبه، يرمق الأول الثاني بنظرة متفحصة قل لي الأستاذ عوني ماذا فعل هبّول؟

الساخر يخرس هذه المرة؟» يتساءل رئيس التحرير، مستخدماً اسم الاستهزاء السرّي الذي أطلقه هو نفسه على سميح».
هذه ليست قراءة في قصص حسن م يوسف، وهو من هو في القص وريادته في سورية، والأمر يحتاج إلى دراسات مطولة، ولكنها وقفة للإشارة بهذا المنجز الثقافي القصصي الذي أخذ عقوداً من الزمن والتريث والتجويد لرائد قصصي مهموم بالحياة والإنسان. وقد جاء الوقت الذي يضع الكاتب نتاجه القصصي بين أيدي القارئين والدارسين بعد أن نفدت الطبعات السابقة من مجموعاته ما عدا (الساخر يخرس) المطبوعة في اتحاد الكتاب العرب منذ فترة بسيطة. إن ما قدمه القاص المبدع حسن م يوسف يستحق الوقوف عنده ودراسته، وهو يشكل إرثاً ممتداً، وجسراً قصصياً بين أجيال الرواد والشباب، ينقل إليهم تجاربه في الحياة والثقافة ويحافظ على سعيد حورانية وقصصه الرائدة، لينقل ذلك إلى جيل تعطش للريادة.
وتشكل قصص حسن م يوسف معلماً قصصياً يملك القدرة والكفاءة على إنارة درب الإبداع السوري بجميع أجياله وصنوفه وتجلياته، فشكراً لجهد الأستاذ المبدع في ضمّ أعماله القصصية، وشكراً لتكريم وزارة الثقافة بجمع هذا التراث القصصي الذي سيرفد بالكثير من عطاءات المبدع التي لا تتوقف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن