ثقافة وفن

سورية.. لوحة جميلة فريدة في جمالها يعجز الكلام عن وصفها … تناغم فيها شموخ الجبل مع سحر الوادي

| المهندس علي المبيض

لا بد في البداية أن نؤكد للسادة القراء أن الحضارات التي قامت في سورية منذ القدم هي عبارة عن حضارة واحدة لكنها متنوعة لأن مكونها الرئيسي هو الإنسان السوري الذي استوعبها وأضاف إليها من خبراته التراكمية الشيء الكثير ليخرج بعد ذلك منتجاً جديداً يحمل الخصوصية والهوية السورية، واستطاع الإنسان السوري بذلك تأمين استمرارية هذه الحضارات التي مرت بمراحل مختلفة صعوداً وهبوطاً على مر العصور كالبابليين والآشوريين والفينيقيين والإغريق والرومان والأنباط.. وكانت من أشهر ممالكها ماري، دورا أوروبوس، تدمر، إيبلا، عمريت، أوغاريت.. وتلت تلك الحضارات فيما بعد في القرن السابع حضارات كالأمويين والعباسيين والأيوبيين.. وغيرها.

أرض سورية مهد الحضارات والثقافات، فالآثار العظيمة والأوابد التاريخية المنتشرة في ربوعها أكبر دليل على مسيرتها الحضارية فهي غنية بالمواقع الأثرية والحضارات القديمة التي تشمل مختلف العصور التاريخية.. ولا شك أن المكتشفات الأثرية المتميزة والكبيرة التي شهدتها سورية تساهم بشكل واضح في إغناء تاريخنا وحضارتنا وتبقى هذه المكتشفات نبراساً للفن المعماري الأصيل وشاهداً حياً على امتداد جذور أمتنا في الماضي البعيد.
وإذا كانت معالم العمران الحديث في وقتنا الحالي ماثلة على سطح الأرض أمام الناس جميعا، فإن باطن أرضنا يختزن تراثاً يفتن العقول ويثري المعرفة.
وحري بنا أن نوفر للأجيال القادمة كل ما يزيدها معرفة ودراية بأوابدنا الأثرية العظيمة التي تعكس تاريخ أمتنا الموغل في العراقة والأصالة ولا نبالغ أبداً إذا قلنا إن سورية شكلت بوتقة انصهرت فيها الثقافات والحضارات المختلفة التي قامت فوق أرضها الطاهرة ثم انطلقت منها إلى أصقاع العالم، ومن واجبنا جميعاً جهات عامة وخاصة وأفراد أن نسهم في إبراز قيمة التراث السوري الغني واكتشاف مواطن قوته وتسليط الضوء على نقاط الالتقاء العديدة التي تجمع مكونات المجتمع السوري كافة لنصل من خلال ذلك إلى حقيقة مهمة وهي أن جميع السوريين هم أبناء ثقافة واحدة لكنها ذات ألوان متعددة وتاريخهم مشترك وإن كان ذا طيف واسع ويعزى ذلك إلى تنوع الثقافات التي نتجت عن الحضارات التي تعاقبت على أرضها الطاهرة، حضارات ولدت عليها أو مرت واستقرت فيها وامتدت على كل شبر من الجغرافية السورية وساهمت بشكل كبير في الحضارة الإنسانية العالمية، وهدفنا من ذلك إبراز أهمية الثقافة السورية الأصيلة كأرضية مشتركة للسوريين لكونها تعتبر العروة الوثقى ومعقد الآمال والثقة في هزيمة مشاريع التفتيت والتقسيم التي تستهدف شخصية الأمة وهويتها وتاريخها قبل أن تستهدف حدودها وجغرافيتها.
ونستكمل اليوم ما كنا قد بدأنا به بالمقالات الأسبوعية التي نقوم بنشرها والتي استعرضنا خلالها بعض ملامح التاريخ السوري الحافل بالأحداث المهمة التي أسست لكتابة تاريخ البشرية في المنطقة برمتها، حيث كنا خلال المقالات السابقة قد سلطنا الضوء على بعض القلاع والحصون في محافظة طرطوس واستعرضنا قلعة أرواد ومدينة عمريت وقلعة الخوابي وقلعة الشيخ ديب وحصن سليمان وقلعة الكهف وبرج ميعار وقلعة العريمة وقلعة يحمور وقلعة العليقة ونستكمل في مقالنا اليوم الحديث عن بقية القلاع والحصون والأبراج في طرطوس.

برج صافيتا
قبل الحديث عن برج صافيتا أجد من المناسب أن نعطي لمحة سريعة عن مدينة صافيتا واسمها يعني الصفاء باللغة السريانية وسميت بالعصر البيزنطي باسم أجيرو كاسترون وفي زمن الصليبيين سميت القلعة البيضاء أو البرج الأبيض نسبة إلى البرج.
تتميز صافيتا بارتفاعها وإطلالتها على البساتين الدائمة الخضرة المحيطة فيها، وهي ترتفع 400 م عن سطح البحر كما تبعد عن مدينة طرطوس مسافة 27 كم من الجهة الجنوبية الشرقية، تقع صافيتا على قمة جبل ويعد برجها من أهم المعالم الأثرية فيها ويقع في أعلى قمة في مدينة صافيتا ويسمى البرج الأبيض لكون مظهره الخارجي أبيض لأنه مبني من الأحجار الكلسية البيضاء والبرج هو الوحيد المتبقي من قلعة صافيتا ويرتفع نحو 39 متراً، وتم العثور على لقى فخارية وبرونزية في الوادي الشمالي وفي المناطق المحيطة به وهذا يؤكد أن هذه المنطقة كانت مأهولة منذ القدم.
يقع البرج فوق هضبة مستديرة صخرية ويرجح أنها كانت محطةً ومركزاً دفاعياً لحامية فينيقية في مملكة أرواد ويتميز موقعه بأهمية إستراتيجية لكونه يشرف على الساحل حتى أرواد حيث يمكن من هذا البرج وبالعين المجردة رؤية قلعة الحصن وقلعة العريمة وقلعة طرابلس وبرج ميعار وقلعة يحمور وقلعة أم الحوش وقلعة العليقة وقلعة صلاح الدين على امتداد جبال الساحل السوري وكان يشكل قديماً شبكة اتصال وإشارات تحذيرية بين تلك القلاع من خلال إشعال النار في الليل والدخان في النهار، وقد تعرض برج صافيتا لعدد من الزلازل وانتقلت السيطرة عليه بين العرب والصليبيين عدة مرات نظراً لأهمية موقع البرج الإستراتيجية.
يتم الدخول إلى البرج من البوابة المطلة على جهة الشرق وهي عبارة عن بناء مؤلف من طابقين ويتكون من:
الأساس الفينيقي وهو مغمور تقريباً.
الطابق الأول تحول إلى كنيسة تمارس الطقوس الدينية حتى الآن.
الطابق الثاني ويتألف من صالة مفتوحة فوق الكنيسة مكونة من أقواس وعقود وتدعى بالقاعة الكبرى وفيها فتحات عميقة عبارة عن مرامي السهام وكانت تؤمن الدفاع عن البرج وقد تم تصميم الطابق الثاني وبناؤه في أوائل القرن الثالث عشر على ثلاث ركائز من الأعمدة الضخمة ويتم الوصول إلى السطح عن طريق درج في الطابق الثاني، ويضم السطح شرفات تم بناؤها بصخور ضخمة منحوتة.
السور كان مرتفعاً وضخماً وهو متهدم حالياً بفعل الظروف الجوية والحروب والزلازل كما تم استخدام حجارته في إشادة منازل سكنية بداخله.

قلعة القوز
تقع قلعة القوز في مدينة بانياس وباتت اليوم جزءاً من حيّ القوز السكنيّ ضمن مدينة بانياس يعود تاريخ بنائها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، بنيت فوق هضبة قرب مدينة بانياس، تبلغ مساحتها نحو 60 ألف متر مربع، وقد شُيِّد حول القلعة سورٌ كبيرٌ ضخم مبني من حجارة كبيرة يصل وزن الحجر الواحد منها إلى بضعة أطنان تتخلله بوَّابتان وثلاثة أبراج، وتمتدّ بقاياه على مسافة طولها 400 متر، بنيت القلعة وفق نظام كنعاني قديم، وبقي من القلعة لغاية اليوم أجزاء وبقايا قليلة منها حيث إن معظم معالم القلعة وبقاياها قد تهدمت واندثرت الآن، وقامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بتسجيل القلعة كموقعٍ أثريٍّ في محافظة طرطوس في عام 2012.
إن شدة انحدار حدود القلعة الشرقية والغربية على وادي نهر بانياس زاد في تحصينها الطبيعي كما أن القلعة بسورها وأبراجها وبحدودها الشرقية والجنوبية المطلة على الوادي تعتبر من أكمل التحصينات الباقية من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وخلال أعمال التنقيب التي جرت في القلعة تم العثور على رقيم طيني فخاري تدل الكتابات عليه أنه عبارة عن وثيقة ذات صلة بتعاقد حقوقي ويعتبر من أقدم ما عرفته البشرية في مجال تنظيم العلاقات التعاقدية وهو يشابه إلى حد كبير الصيغ القانونية التعاقدية السائدة حالياً من حيث توثيق العقود بالكتابة وإشهارها وتسجيلها والإشهاد عليها، وقد ورد اسم قلعة القوز «أوزا» في رسائل تل العمارنة حيث وردت باسم «أزا» أو «ألازا» إشارة إلى «أوزا» أو «قلعة القوز» الحالية.
قلعة أم حوش

هي معلم تاريخي ومثال مهم عن القلاع والحصون في محافظة طرطوس وتقع في قرية أم حوش بالقرب من صافيتا وتبعد عنها مسافة 6 كم من الجهة الجنوبية، وهي عبارة عن أطلال برج مراقبة تهدم الجزء الأكبر منه، كان يستخدم برج مراقبة وشكل في حينه مركزاً مهماً للتواصل بين قلاع الساحل السوري، حيث كان يتحكم بأحد طرقات ما كان يسمى فتحة حمص – صافيتا، ومن هنا نجد أهمية هذا البرج كموقع حصين يؤمن حماية المنطقة التي يشرف عليها، ومن جهة أخرى يرسل التحذيرات بين القلاع يتوضع البرج على هضبة مرتفعة بارتفاع 162م، وهي تشرف على ما حولها وتتصل بخط نظر مع «برج صافيتا» و«قلعة الحصن» كما يشرف على وادي نهر الأبرش شمالاً.
وتشير الدلائل إلى أن البرج بني في الفترة نفسها التي بنيت فيها قلاع «العريمة، صافيتا، الحصن، بني قحطان» كما يظهر في بنائه تداخل الحقب الزمنية حيث نجد أثراً واضحاً لطراز البناء في الفترة الصليبية للصليبيين بسبب وجود الصلبان حيث عثر على عتبة النافذة الجنوبية من الطابق الثاني على نقش حجري لصليب مالطا كذلك نجد الآثار العربية الأيوبية في أسلوب بناء أجزاء من البرج، واستخدام أنواع من الحجارة البازلتية السوداء متداخلة مع حجارة بيضاء.
ونستمر في رحلتنا التاريخية التي نستعرض خلالها عدداً من القلاع والحصون والأبراج المتناثرة فوق روابي سوريتنا الغالية.
ونبقى نحن أصحاب وعشاق هذه الأرض الطاهرة.. نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال.. جيلاً بعد جيل.

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن