ثقافة وفن

لن يجود الزمان

| إسماعيل مروة

سألتني إحداهن بعد أن انتهت المكالمة الهاتفية:
كنت أراك تتحدث بوقار على غير عادتك، وسمعت لقب سماحتك، فهل كان الحديث مع المفتي العام الدكتور أحمد بدر الدين حسون؟ أجبتها: نعم، فبادرت بما صدمني إنه كثير البكاء، وحين رأت استغرابي للمنطق، أرادت أن تشرح لي ما لم أفهمه: وإن مات له ولد، فقد مات أولاد عديدون للناس، الأمر لا يستدعي كل هذا البكاء!! فنفرت نفسي من هذا الحديث ممن لا تعرف شيئاً، وممن لا تميز بين الموت والقتل، بين الموت والشهادة: ووجدتني مضطراً للكتابة بموضوع يفتح الجراح التي لم تندمل أصلاً. فمن أخبر هذه الغرّة وكثيرين أن البكاء مثلبة؟ أليس قرب الدمعة عند المؤمن بقضاء الله وقدره دلالة على عمق هذا الإيمان والتسليم بما قدّر المولى؟ ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته من قريبي الدمع؟
ألم يوصف صلاح الدين الأيوبي المقاتل عمره بأنه رقيق القلب، قريب الدمع؟
في الوقت الذي نطالب الإنسان، أي إنسان بالرأفة والرحمة على الناس، نستنكر الدمع من لوعة أب، ومن شخص اعتباري عارف بالأمور وبواطنها مثل سماحة المفتي العام! وكيف لا تكون الدمعة قريبة عند من كان القرآن في روحه، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في نهجه وهو من قال: إن العين لتدمع؟!
هذا أولاً، فليس من حق أحد، أي إنسان في الكون أن يسلب الآخر إحساسه بأسرته وأولاده، أم إن الشخصية الاعتبارية المثال لا يحق لها أن تشعر بأسرتها؟!
وثانياً فقد فات الشانئين والمبغضين والموتورين أن سماحته لم يضع صورة سارية وذكراه ويعتزل، وهو من قال في أول كلمة عند استشهاد سارية لـ«الوطن» تحديداً ونشرها السيد رئيس التحرير في افتتاحية يوم الإثنين، يوم التشييع، سارية ليس أغلى من أي شهيد سوري ذهب ضحية الحرب الظالمة على سورية، لكنه ابني، وللابن لوعة..
يبدو أنه حتى يرضى الشانئون كان عليه ألا يتقبل فيه عزاء، وألا يدمع لجزء غال منه غادر الدنيا! أو أنه عليه ألا يرى لوعة أم الأديب التي كانت تتجهز لعرسه! وعليه ألا يكترث لتجوال بصر الإخوة عن أخيهم الذي كان بينهم ولم يكن اليوم حاضراً أو عليه ألا يجيب الدراويش الذين حضروا آخر إفطار رمضاني أقامه سماحته بوجود سارية في صالة جامع الحسن بدمشق، وكان سارية يخصهم بحدبه وتقديره وضيافته!
وثالثاً يغمض هؤلاء أعينهم عما فعل سماحته بعد استشهاد سارية، وهو الذي لم يترك مدينة أو قرية إلا وضمّد جراحها بشهدائها، من أقصى سورية إلى أقصى سورية، وما من دعوة للاحتفاء بشهيد إلا وكان أول الحاضرين والمبلسمين للجراح سواء كان الشهيد معروفاً وبرتبة أو كان غير معروف، سواء كان مدنياً أو عسكرياً، وأنا بحكم قربي وصداقتي التي تفضل بها منذ عقود على تواصل يومي مع سماحته، وكم من مرة طلبته ليكون في أقصى قرية سورية يحتفي بالشهداء، بل كم من مرة كنت بحاجة كلماته ومعنوياته، فكان يجود بها للشهداء وأسرهم وأولادهم، الذين تفوق اهتمامه بهم على اهتمامه بأصدقائه المقربين!
وماذا في البكاء على الولد؟ وهل مثل الولد؟ وإن كان مثل سارية فإنه أحرى بالبكاء والحزن، ويستحق أن يلبس عليه السواد كما فعلت الخنساء، لكن سماحته لبس ثوب التفاؤل والصبر، ووزع دمعه على شهداء سورية، ووزع اهتمامه على شؤون أسرهم، وكان الأمين على نظرة السيد الرئيس للشهداء وأسرهم، وأكاد أجزم أنه من القلة النادرة التي تمثلت رؤية السيد الرئيس في الشهداء الذين دفعتهم سورية قرباناً على مذبح الوطن بسبب الحرب الكونية على سورية..
لم يتوقف يوماً عن النداء بالإيمان، والإيمان أعمق من الشرائع، الإيمان الذي يجعلك في مرتبة أعلى.
لم يقبل أن يكون داعية لشريعة أو فئة، بل أراد أن يكون داعية للحب والألفة بين الناس، داعية للوطنية والمواطنة، داعية لنبذ الحقد والكره، داعية للتآلف.
في كل مشهد كان سماحته مكلوماً بالسوريين ودمائهم، لم يتخلف عن جامع أو كنيسة أو اجتماع، فكان مثالاً للإيمان الحقيقي، وصل إلى المثال في الإيمان والشانئون مشغولون بتأويل ما لا يمكن تأويله، وباختلاق الأراجيف حول مشاركات سماحته، وكل همهم أن يقعدوه عن نشر دعوة الحب التي انتدبه إليها السيد الرئيس، والتي طلبتها منه سورية المستحقة للحب.
يعرف المبغضون قبل المحبين أن الزمان لم يجدْ بمثل هذا الفكر المتنور ولن يجود، ويعلمون أنه نور من الإيمان يصعب أن يتكرر بهذا العمق الإيماني الصوفي، فلنعد إلى ثقافة الحب والإيمان ولتتكاتف الجهود كل من موقعه لتعزيز هذه الثقافة، ولن يأخذ أحد من مكانة أحد أو من دوره، فما انتدب السيد الرئيس سماحة المفتي له كبير كبير، ويستحق الدعم.. لأنه ثقافة سورية القادمة.
ولكن..
اسمحوا لسماحته أن يذرف دمعاته لسارية كما يذرفها لكل الشهداء، وأن يهتم لأمر أسرته كما يحمل همّ الكثير من السوريين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن