قضايا وآراء

إعادة التأهيل لمن!

| د. بسام أبو عبد الله

لا يفاجئني أبداً تصريح أي مسؤول عربي لأنني أدرك أن هذا التصريح لا ينبع من مصلحة وطنية أو قومية، إنما هو صادر لإرضاء أطراف دولية وإقليمية، ولإظهار فحولته أمام الرأي العام بأنه صاحب قرار، والأمر هنا ينطبق على كثير من المسؤولين العرب الذين منذ أن بدأت انتصارات سورية تلوح في الأفق، وهم يداورون، ويكذبون للأسف في إنتاج الحجج، والأسباب التي تدعوهم للعودة لطرق بوابات دمشق.
تارة يتحدثون عن وقف ما يسمونه «التغول الإيراني والتركي»، وتارة أخرى يطلقون حديثاً عن وحدة الصف العربي، والبيت العربي، والتضامن العربي، وثالثاً يتحدثون عن «الواقعية السياسية»، كلها تعني أن مشروعهم هُزِمَ، وسقط، وأن دماء شهداء سورية أينعت شقائق نعمان لانتصار تاريخي سيكون له تداعيات هائلة ليس في سورية والمنطقة فقط، وإنما في العالم أجمع.
مناسبة هذا الحديث هو التصريح الأخير لوزير الخارجية المصري سامح شكري، الذي يشترط على دمشق اتخاذ إجراءات وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لتأهيل تلك العودة! أي إن عودة سورية للجامعة العربية ترتبط بالمسار السياسي لإنهاء الأزمة حسب ما شرح شكري في التصريح نفسه.
الحقيقة أن المصطلحات التي ما يزال يستخدمها بعض المسؤولين العرب تنتمي لسنوات مضت، وهي مشابهة تماماً لتصريحات من يسمون أنفسهم «معارضة سورية في الخارج»، الذين لم يتغيروا قيد أنملة منذ عام 2011 ليس لأنهم يحملون مبادئ وقيماً ثورية، ولكن لأن الرواتب التي يتقاضونها تدفعهم لاستمرار صب الزيت على النار كي يستمروا بأخذ الفتات من موائد البترودولار حيث يعملون أجراء لدى بعض معلميهم بصفة «معارضة».
فيما يخص الجامعة العربية، وموضوع مقعد سورية، فإن الرأي العام السوري لا يكترث لهذه القضية من قريب، ولا من بعيد، ولا تعنيه الجامعة، لأنها برأي كثيرين هي «جثة هامدة» لا تُقدم ولا تُؤخر في مسار انتصار سورية القادم، بل بالعكس فإن السوريين عامة ينظرون بريبة، وشكوك لهذه العودة السريعة، ويقول بعضهم: إنها ليست إلا محاولة لإعادة ترتيب الأوراق من أجل العمل من الداخل السوري قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2021 بعد أن اكتشف الكثير من قادة الغرب فداحة الخطأ الذي ارتكبوه بإغلاق سفاراتهم ففقدوا القدرة على التأثير، والتحليل الدقيق للواقع، واعتمدوا على مراكز بحوث عن بُعد، أو مصادر سورية معارضة، ثبُت أنهم مجموعة من الكذابين والمنافقين، فأوصلوهم إلى هذه النتيجة المخزية التي جعلتهم يصطدمون بالحائط، ويُهزمون شرّ هزيمة.
إذاً الرأي العام السوري ليس متحمساً أبداً لموضوع الجامعة العربية والعودة إليها، لا بل يشعر بغصة عندما يجري الحديث عنها لأنه ذاق عذابات ومرارات التآمر من هذه الأنظمة، ودفع دماء غزيرة للدفاع عن وحدته وسيادته، لكنه في الوقت ذاته يؤمن بحكمة قيادته السياسية، والواقعية التي تتعاطى بها مع هذا الأمر، مع الحرص الشديد على مشاعر الرأي العام السوري، ولتذكير بعض المسؤولين العرب بالموقف السوري فهو حسب ما أفهم ينطلق من عدة اعتبارات:
* سورية لم تنسحب من الجامعة العربية لتطلب العودة إليها.
* قرار الجامعة العربية كان غير شرعي وغير قانوني.
* سورية لم تطرد أي سفير عربي إنما هم من سحبوا سفراءهم وعليهم إعادتهم بهدوء إن كانوا يرغبون.
* سورية تنطلق دائماً من اعتباراتها القومية، ومن عودة الوعي لجزء كبير من الشارع العربي بعد انكشاف أوراق ربيعهم المزعوم.
الأهم الآن، عن أي جامعة عربية نتحدث؟ هل تلك الجامعة التي شكلت جسراً للتآمر على أعضائها وتدميرهم، وتأهيل القرارات التي تخدم الولايات المتحدة وإسرائيل؟ أم جامعة عربية تهتم بمصالح دولها وشعوبها، وتأخذ دروساً وعبراً مما جرى خلال السنوات الثماني الماضية؟
هذا سؤال جوهري ليس أوانه الآن، لكن لابد من طرحه!
إن التفكير السوري يقوم على هذه الأسس الواقعية والمنطقية التي تعكس إستراتيجية سورية العربية، وفهمها وتحليلها لهذا الواقع العربي السيئ، الذي يلعب فيه كل اللاعبين الإقليميين والدوليين ما عدا العرب الذين أخرجوا أنفسهم من التاريخ حينما أبعدوا سورية، وهم يعرفون ذلك تماماً.
يحاول البعض، للأسف، التذاكي علينا بحرف المصطلحات، واختراع أخرى مثل «تأهيل عودة سورية» مثلاً واتخاذ إجراءات وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254 و«حضور القمة الاقتصادية العربية في بيروت، أم عدم حضورها» و«تقديم سورية طلباً للعودة إلى الجامعة»! وهلمّ جراً، والحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أنه من يرد إعادة فتح سفارته فعليه أن يعود بهدوء، ومن دون ضجيج وصخب وتصريحات وشروط، لأن بوابات دمشق لم تغلق أبداً في وجه المحبين والمخلصين، كانت وستبقى مفتوحة أمام من يريد الدخول إليها بقلب مفتوح، وبشجاعة من يعرف الأخطاء الفادحة التي ارتكبت بحق سورية وشعبها وجيشها وقائدها.
لا أعتقد أن من يعرف مبدئية السياسة السورية يمكن أن يراهن على تغييرها أو حرفها عن مبادئها، وتحالفاتها التي أنتجت تبدلات إستراتيجية ستذكرها الأجيال القادمة لسنوات طويلة، تبدلات كان ثمنها باهظاً، دماء آلاف الشهداء والجرحى، الذين هم أغلى ما سوف ندافع عنه لأنهم هم من عبّدوا طريق الكرامة والعزة والسيادة ووحدة سورية، وحفظوا المنطقة من قطعان الإرهاب والتكفير، الذين أُتي بهم من كل أصقاع الأرض لتدمير حضارة وتنوع هذا المشرق الجميل.
إن المبدئية لا تعني الابتعاد عن الواقعية التي تتقن دمشق بحرفية وحكمة التعاطي معها، ولكنها أيضاً لا تعني أبداً وضع الشروط التي لا يمكن للمهزومين أن يضعوها وهم يتجرعون كأس الهزيمة بمرارة من خلال الانسحاب الأميركي الذي فاجأهم، ولم يفاجئنا، لأننا أبناء هذه الأرض الغالية والعريقة، والتي لشعبها وحده حق فرض الشروط، وطلب إعادة التأهيل من الآخرين.
وإذا كانت وسائل الإعلام الغربية تعج يومياً بالمقالات التي تتحدث عن انتصار الرئيس بشار الأسد على أضخم مشروع فاشي يُشن على بلد في العالم، فإن على أولئك المتفذلكين بتصريحاتهم وبشروطهم أن يفهموا أن كرامة سورية وشعبها البطل أهم بكثير من الشروط الدولية التي توضع عليهم وتظهرهم بأنهم لم يعالجوا حتى الآن قضية الاستقلال والقرار الوطني، والواقع الذي تغير جذرياً، وعليهم أن يعيدوا تأهيل أنفسهم لمرحلة جديدة تختلف تماماً عما عرفوه سابقاً عن سورية وشعبها ورئيسها، فهم يتعاطون مع شعب وبلد الشهداء، ويتعاطون مع جيش صلب وشجاع، وأبي، ويتعاطون مع رئيس ينصحهم ويفكر بالآتي من دون أن ينسى الماضي الأليم، ويحاول أن يركز على القضايا الجوهرية، وليس الشكليات التي لم تكن يوماً إلا قشوراً لا قيمة لها.
أيها القادة العرب، سورية بألف خير، لأنها أبية وصاحبة كرامة وعزة وطنية، أهِّلوا أنفسكم من أجل المستقبل، وفكّروا بمصالحكم، وآن لكم أن تتعاطوا بواقعية وتتخلوا عن الشكليات باتجاه الجوهر الذي هو «أي جامعة عربية نريد»، وعن أي مصالح عربية نتحدث، ساعتئذ ستجدون دمشق وبواباتها بانتظاركم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن