من دفتر الوطن

قتل الأحلام

| حسن م. يوسف

بعد سقوط جدار برلين وعودة الوحدة بين الدولتين الألمانيتين عام 1989 انتشرت في الصحف والمجلات حكاية مثيرة عن جاسوس تم اكتشافه في الاتحاد السوفييتي. والغريب في ذلك الجاسوس هو أنه لم يكن يقوم بأي من الأعمال التقليدية التي يقوم بها الجواسيس؛ كأن يجند المزيد من العملاء وأن ينقل أسرار الدولة ويروج المعلومات المضللة ويشيع الفتن…إلخ. والحق أنني لم أستطع، في حينها، مقاومة إغراء هذه الحكاية الدراماتيكية، فأعدت كتابتها كما فعل آلاف الصحفيين في مشارق العالم ومغاربه. وقد لاحظت من خلال المتابعة أن كل كاتب كان يعيد صياغة الحكاية بطريقته الخاصة بحيث لم يعد بوسعي الآن تمييز العناصر الواقعية في القصة عن العناصر الخيالية!
تقول الحكاية، كما أتذكرها، إن المخابرات المركزية الأميركية تمكنت من استمالة ضابط في المخابرات السوفييتية، بعد أن تعهدت له بتسهيل عملية ارتقائه في الدولة السوفييتية، وإبقائه بعيداً عن الشبهات. فمهمته هي أن يكتب مقالات باسم مستعار في الصفحة الأولى من جريدة «البرافدا» يمجد فيها إنجازات الدولة السوفييتية ويغطي أخطاء المسؤولين ويبررها، بحيث لا ترقى لولائه الشكوك. لكن مهمته الأساسية كانت تتركز في تبديد الطاقات البشرية للبلد من خلال اختيار الانتهازيين والأفراد الأقل كفاءة ونزاهة لشغل المناصب الحساسة في الدولة، والحرص على عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وبفضل خدمات هذا الجاسوس وأمثاله استطاعت أميركا « أن تحقق نصراً من دون حرب»، على حد قول الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون.
أعترف لكم أن هذه الحكاية القديمة المكرورة، قد فرضت نفسها على ذاكرتي، طوال فترة مشاهدتي لبرنامج «لعبة الأمم» الذي أعده وقدمه الإعلامي العربي المتميز سامي كليب على قناة الميادين بعنوان «السودان، انتفاضة داخلية أم مؤامرة».
يعلم جميع أبناء جيلنا أننا كنا ندهن السماء باللون الوردي في ستينيات القرن الماضي. فالسودان وحده يملك من الأراضي الصالحة للزراعة ما يكفي لإطعام العالم العربي، وكانت وسائل الإعلام تردد على الطالعة والنازلة أن السودان هو سلة الغذاء العربي، وقد خاصمني أحدهم لأنني صارحته بأنه قد زودها عندما قال في مقال له إن «السودان هو سلة غذاء العالم».
لن أناقش هنا ما يجري في السودان حالياً فذلك شأن المحللين السياسيين الذين صاروا أكثر من الهم على القلب، بل سأكتفي بالوقوف عند جزئية مفادها أن أحد الأسباب الأساسية للمظاهرات هو عدم توافر الخبز! نعم الخبز! شيء لا يصدق حقاً! أن يعجز السودان، «سلة غذاء العرب» عن توفير كفاية مواطنيه من الخبز!
النكتة السوداء هي أن جامعة الدول العربية أنشأت في إطارها منذ نحو نصف قرن المجلس الاقتصادي والاجتماعي بموجب المادة الثامنة من معاهدة الدفاع العربي المشترك.
وقد انتهى الدفاع العربي المشترك بأن تآمرت بعض الدول العربية على سورية، واحتل صدام الكويت وشن السعوديون والإماراتيون وحلفاؤهم ومن بينهم السودانيون، أشنع حرب إجرامية على اليمن الفقير الذي كان سعيداً في يوماً ما! وبفضل المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة لايجد السودان كفايته من الخبز.
في سياق برنامجه ذكرنا الإعلامي سامي كليب بفكرة قالها الرئيس السابق لجهاز المخابرات الإسرائيلي الشاباك آفي ريختر في محاضرة ألقاها قبل نحو عشرة أعوام: إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة «أمر ضروري لدعم الأمن القومي» للكيان الصهيوني.
لست أعلم من القائل إن القاتل الأخطر ليس هو من يطلق الرصاص على شبابنا، بل هو من يقتل أحلامهم ويحولهم إلى أموات بين الأحياء. لكنني أرفع له القبعة! فقد نجح أعداؤنا من خلال تحكمهم بحكامنا أن يحولوا ثرواتنا الهائلة إلى ما هو أسوأ من الفقر المدقع، وقوانا الجبارة إلى ما هو أسوأ من السرطان!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن