قضايا وآراء

واشنطن وأنقرة وسياسة العصا والجزرة

| محمد نادر العمري

شكل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سورية موضوع تجاذب وكباش في المواقف من أقطاب السياسة الأميركية بتوجهاتها وتأثيراتها المختلفة، ليطول هذا التجاذب حلفاء واشنطن الدوليين، فهذا القرار إن اتسم ببداية إعلانه بالتفرد الشخصي من الرئيس الأميركي إلا أن المتابع لمجريات التصريحات والسلوكيات والجولات الدبلوماسية المكوكية يلاحظ أن مضمون ومفاعيل تنفيذ هذا القرار تم الالتفاف عليه واحتواؤه وتغيير مساره من بعض صقور الإدارة الأميركية مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو، من دون الدخول في كباش مع الرئيس ترامب لتفادي مصير وزير الدفاع جيمس ماتيس وبعيداً عن الخنوع لمصالح مؤسسات الدولة العميقة، ليعكسا بهذا السلوك صورة التقلبات الدراماتيكية التي تؤثر في سياسة ترامب الخارجية، ما دفع صحيفة «واشنطن بوست» منذ أيام للتساؤل عما إذا كان كبار مستشاري الرئيس ينفذون سياسته أم إنهم يتبعون أجنداتهم الخاصة؟!
حقيقة هذا التساؤل من الصحيفة له أبعاد مهمة على مستويين: الأول داخلي والمتمثل بتأييد قرار الانسحاب شكلياً لزيادة شعبية الرئيس ترامب وحزبه الجمهوري قبيل بدء موسم الترشح الرئاسي للحزبين عقب صدور نتائج استطلاعات للرأي، في الثامن من الشهر الجاري، التي تشير إلى تأييد أغلبية الأميركيين قرار الانسحاب من سورية وأفغانستان بنسبة تجاوزت 56 بالمئة، على حين عكست تصريحاتهما وزيارتهما الدبلوماسية قدرتهما على إفراغ القرار من مضمونه أو المماطلة به، فربط جون بولتون الانسحاب بشرط القضاء على داعش وتقديم ضمانات تركية بعدم الاعتداء على القوى الكردية.
يظهر أن بولتون وبامبيو إلى جانب مسؤولين كبار في البيت الأبيض، يقفون خلف حملة تدار بنعومة وببطء تجري خلف الكواليس لوضع «العصي» أمام عجلات الانسحاب، عبر تضمين جملة «الانسحاب المشروط من سورية».
ويمكن القول إن هذه السياسة الناعمة من بعض صقور الإدارة الأميركية نجحت في دفع ترامب للترنح بين سياسة الجزرة والعصا مع أنقرة، كان آخر تجليات ذلك وعيده بتدمير اقتصاد تركيا إذا هاجمت الأخيرة الكرد في سورية بعد انسحاب القوات الأميركية منها قبل أن يتراجع عن ذلك بقوله: «إن هناك إمكانية كبيرة لتوسيع نطاق التنمية الاقتصادية بين الولايات المتحدة وتركيا» خلال اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان.
من المؤكد أن قوات الولايات المتحدة الأميركية لن تبقى طويلاً في الشمال السوري، ولكن لن تنسحب من دون تحقيق أهداف أو من دون تحديد معالم إستراتيجية تضمن بقاءها في المنطقة تستطيع من خلالها التأثير في المشهد السوري ولكن بشكل غير مباشر وعن طريق «حلفائها الأعداء» لذلك تسعى إلى المماطلة اليوم بقرار الانسحاب من سورية ولأكثر من هدف:
أولاً: السعي الأميركي في الاستمرار بدق إسفين الخلاف بين محور أستانا عبر استجرار التركي لعدوان على الشمال السوري وإيقاعه «بفخ المصيدة» التي تتمناها واشنطن وتخطط لها عبر ما تسميه ملء الفراغ بصراع إقليمي متعدد الأطراف وله تداعيات جيوسياسية.
ثانياً: شكلت زيارتا بولتون وبومبيو للمنطقة وبخاصة دول الخليج مسعى أميركياً للحد من اندفاع دول الخليج نحو تصحيح مسار علاقاتها مع دمشق وبهدف إقناعها أن الانسحاب من سورية لا يعني الانسحاب من المنطقة بل إعادة انتشار وتموضع لإقناع هذه الدول بالانضمام إلى«الناتو العربي السني الإسرائيلي» ضد إيران، ما يسمح لواشنطن بالاستمرار في صراعها مع طهران بالوكالة ويظهر التطبيع بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي إلى العلن، وضمن هذا الإطار سعت واشنطن لتوسيع قاعدتها في «العديد» القطرية وتضغط على الحكومة العراقية لتوسيع قاعدة «k1» في كركوك، ونجح بومبيو خلال زيارته للرياض والدوحة بالضغط على الطرفين لإنجاز مصالحة بينهما لتذليل العقبات أمام الحلف المزمع إعلانه في شباط القادم، وتغيير التصريحات العربية تجاه دمشق ابتداء بتصريح وزير الخارجية المصري وصولاً لما أدلى به وزير الخارجية القطري.
لتحقيق هذه الأهداف فإن واشنطن تضغط على تركيا للاستجابة لمطالبها، الأمر الذي يضعنا أمام تصورات أو سيناريوهات متعددة خلال الشهرين القادمين:
السيناريو الأول يتمثل في إطالة الانسحاب قدر الإمكان من سورية أو القيام بانسحاب جزئي وإعادة تموضع القوات الأميركية مجدداً في الشمال السوري، وهو ما سيدفع تركيا نحو تعزيز علاقاتها وتنسيقها مع الجانبين الروسي والإيراني ضمن مسار أستانا أكثر مما سبق، أو أن يدفعها نحو مغامرة تكون هي الخاسر الأكبر من خلالها ولو استطاعت حشد 10 آلاف من مقاتلي الفصائل المسلحة المنسحبين من إدلب.
السيناريو الثاني أن تقدم واشنطن على تنفيذ الانسحاب وأن تتخذ من شمال ووسط العراق نقاط هجوم على العمق السوري تحت ذريعة استخدام الكيميائي، ومما يعزز هذا السيناريو عدة مؤشرات أهمها: الأول التصريحان المتتاليان لكل من مستشار الأمن القومي الأميركي قبيل وصوله للمنطقة وبعدها وبأقل من 72 ساعة من وزير الخارجية الأميركي من القاهرة، باستخدام القوة أو التهديد باللجوء لها في حال استخدام السلاح الكيميائي وفق زعمهما، أما المؤشر الثاني فيكمن في سيطرة «جبهة النصرة» على مساحات شبه كاملة في ريف حلب الغربي وإدلب واحتمالية توجهها نحو ريف اللاذقية بمباركة وتوجيه الاستخبارات التركية، وتمدد «النصرة» على هذه المساحات الواسعة يعني أنها أصبحت على خط تماس مع الجيش العربي السوري وهي تمتلك كميات كبيرة من الغازات السامة ودربت عليها بشكل كبير ولها سوابق في استخدام هذه الأسلحة، وقد نشهد خلال الفترة القادمة استخداما لهذه الأسلحة من «النصرة» سواء للتمهيد لعدوان خارجي أم للفت الأنظار والاهتمام من شرق الفرات إلى إدلب. مثل هذا السيناريو يحرج التركي ويدفع محور مكافحة الإرهاب لتسريع العمليات العسكرية حيث اكتملت مقومات الاستعداد لها.
أما السيناريو الثالث فهو قد يكون مستغرباً في الوقت الحالي، إلا أنه قائم ويعتمد على صيغة الصفقات التي يفضلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث قد يلجأ الأخير بعد إخفاقه في دق إسفين الخلاف بين محور أستانا إلى التوصل لاتفاق مع روسيا يضمن من خلال هذه الصفقة الخروج كمنتصر على الصعيد الداخلي للتمهيد لحملته الانتخابية الرئاسية القادمة من جانب ويحصل على ضمانات روسية للحفاظ على القوات الكردية عبر ممارسة موسكو لنفوذها على دمشق في سبيل ذلك، وهذا ما سيوجه صفعة مؤلمة لأنقرة ويخرجها من المشهد بشكل كلي.
المشهد السوري في جغرافيته الشمالية هو معقد للغاية وجميع القوى تريد استعراض عضلاتها لفرض أجنداتها ومصالحها على طاولة المباحثات، فالتهديد بالعدوان التركي على الشمال السوري هو حرب إعلامية حتى اللحظة قد تكون لأهداف انتخابية برلمانية تركية في آذار القادم، والوعود الأميركية للكرد بالدفاع عنهم وحمايتهم هي مجرد أكاذيب ترمي من خلفها واشنطن لقطع الحوار الكردي مع الحكومة السورية، وربما هذه القوى لم تتعلم من دروس التاريخ ما يكفي، والحديث عن إقامة منطقة عازلة أو آمنة وفرض خرائط ملونة هو من المستحيل لأنه يحتاج لمقومات حماية وفرض حظر جوي وأموال لن تستطيع واشنطن فرضها كأمر واقع في ظل متانة التحالف الروسي السوري الإيراني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن