اقتصاد

كـلام حكـومي

| المحرر الاقتصادي

أتيحت لي الفرصة كصحفي للاستماع إلى رأي الحكومة في الأزمة الراهنة المستجدة في توافر بعض المواد الرئيسة، وذلك من مسؤول رفيع المستوى معني بالأمر.
الرواية الحكومية التي يلخصها حديث المسؤول ترتكز بشكل رئيس على العقوبات الأميركية والأوروبية الجائرة أحادية الجانب المفروضة على سورية، وما استجد فيها لجهة التنفيذ منذ منتصف شهر تشرين الثاني الماضي، واشتداد الخناق على رجال الأعمال والموردين، الأمر الذي أدى إلى ضرب شبكة وآلية توريد المواد والسلع إلى البلد، خاصة مع تطبيق العقوبات أحادية الجانب على إيران.
وقام المسؤول بتوصيف الحالة الاقتصادية الراهنة التي تندرج تحت مسمى المشكلة الاقتصادية (الأزلية) وهي ندرة الموارد مقارنة بالاحتياجات، والتخطيط الذي تقوم به الحكومة لتلبية تلك الطلبات بالشكل الأمثل، مشدداً على أنه في ظل المساحة الجغرافية الحالية وعدد السكان (المستهلكين) وتطور واقع الموارد والإنتاج، غير المتوازن، فإن الحكومة تبذل جهداً كبيراً ومكثفاً كل ساعة من أجل التخطيط لتلبية أكبر قدر ممكن من الاحتياجات، وبعدالة، في ظل الإمكانات والطاقات المتاحة، وهناك خطط بديلة لأي طارئ قد يحدث، كما أن الخطط تبنى على أساس أننا في ظرف حرب وفي أي لحظة هناك إمكانية لحدوث أزمة في توريد أي مادة، لذا يتم التخطيط لهذا الأمر وتحديد خطط بديلة، لكن ما يحدث أحياناً في ظروف الحرب المحفوفة بالمخاطر وعدم التعيين هو إخفاق أو قصور تنفيذ أو تعثر جميع الخطط الأساسية والبديلة المرتبطة بقطاع أو مرفق أو تأمين مادة ما، وبالتالي تصبح الأمور في بعض الأحيان خارج حدود الإمكانيات.
وبالغوص في عالم التحليل الاقتصادي، بيّن المسؤول أن اغلب الطلب على السلع اليوم غير مرن، أي لا يوجد له بديل، مثل الحاجات الرئيسة من غاز ومازوت ودواء وطعام… إلخ، فلابد من توافرها بأي ثمن، وقد ازداد الطلب بشكل كبير خلال العام الماضي مع عودة النشاط إلى أغلبية الجغرافية السورية، في الوقت الذي تحتاج فيه العجلة الاقتصادية وقتاً للدوران والإنتاج، وهنا تبرز الفجوة الكبيرة بين الإنتاج (العرض) والاستهلاك (الطلب)، حيث يعوض الفارق عبر الاستيراد، الخاضع لظروف الحرب والعقوبات.
وشدد المسؤول خلال الحديث (الودي) على أن جميع خيارات الحلول لسد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك؛ مطروحة في الحكومة، ودرست بالأرقام والمعادلات وبدقة متناهية وأخذت حيزاً واسعاً من النقاش، وما من خيار مستبعد أو غير مطروح، فبعد ثماني سنوات حرب مازالت الحكومة مجهدة من كثرة الأعباء، وهي اليوم مجهدة أكثر مما سبق، إذ لا يمكن غض النظر عن سنوات الضغط الثماني الماضية، مع اعتماد سياسات واضحة وإعفاءات وتسهيلات لدعم الإنتاج المحلي واستقطاب رؤوس الأموال والمستثمرين.
المسؤول كان يتحدث بحرقة عن الواقع، وخاصة واقع التنفيذ للخطط، حيث يشوبه العديد من نقاط الضعف، والتلاعب، ما يؤثر في عدالة توزيع المواد، مشيراً إلى الإجراءات المشددة في ملاحقة المخالفين والمتلاعبين بتوزيع المواد على المواطنين لتحقيق العدالة.
وفي نهاية الحديث، كشف المسؤول عن آلية جديدة لضمان توريد المواد الرئيسة بدأت تنفذ، وسوف تبدأ نتائجهـــا بالظهــور تدريجياً خلال الأيام القادمة.

هذا ملخص الرواية الحكومية، الذي لا تتبناه «الوطن» مهنياً في الطرح، وإنما تنقله بأمانة كما سمعته، إذ هناك جانب آخر من القصة، مرتبط بموردي المواد وسعر الصرف والعقود، لنسجل فيما يلي بعض التساؤلات والملاحظات:
يتم التعامل العصري مع المشكلة الاقتصادية بما يسمى علم الاقتصاد العصبي (neuroeconomics) الذي يدرس كيف تؤثر الخبرة العملية والنظرية والحالة النفسية والموهبة لدى أصحاب القرار في اتخاذ القرارات أثناء ظروف المخاطرة وعدم التعيين، للبحث عن جملة الخيارات والحلول غير المنظورة من قبلهم، ويقوم هذا العلم بشكل أساسي على ما يسمى أثر الملكية، بمعنى أن رد الفعل البشري حيال خسارة مبلغ من المال أو خدمة كان يحصل عليها يزيد بكثير عن رد فعله عندما يكسبها، لذا يسلك الإنسان الطبيعي في اتجاه تفادي الخسارة، وهذا ما يدركه جيداً المسؤول، وقد تم النقاش حوله، ومن هنا نسأل: عقلانياً، بعيداً على العاطفة، لماذا لم تراع الحكومة مبدأ أثر الملكية ونحن في ظل الحرب، إذ إن أي نقص في أي مادة أصبحت متوافرة سينتج رد فعل سلبياً كبيراً، خاصة بعد برمجة الرأي العام بأن الحرب انتهت؟ وهل حقيقةً، تعاملت الحكومة مع كافة الخيارات المتاحة، ورأت كافة الحلول الممكنة، فإن كان الجواب بنعم، يأتي الرد الطبيعي؛ لماذا حصلت هذه الأزمة إذاً؟ وهل صنّاع القرار حالياً يتمتعون بخبرات وإمكانيات تؤهلهم لاتخاذ القرار الصائبة مع مراعاة كافة جوانب الكفاءة العلمية والعملية والنفسية والموهبة.. إلخ؟
وماذا عن الجانب الآخر في الحكاية، الموردون، فالسؤال اليوم أنه منذ بداية 2018 وحتى شهر تشرين الثاني، كانت الأمور مقبولة، وكل الوزراء تصرح بشتاء دافئ ومريح وبأن الحرب انتهت.. إلخ، وفجأة تتحدث الحكومة عن عقوبات، ترى؛ هل هناك أمور جرت وتجري في الكواليس مرتبطة بعقود التوريد مع بعض رجال الأعمال الموردين أدت إلى انسحاب عدد منهم؟ وما دور الفساد وضعف الخبرة والمهنية في القصة؟
كلها أسئلة يجب أن تكون في عهدة الحكومة اليوم، مع التأكيد على معادلة واحدة، الكل متفق عليها، وتدركها الحكومة جيداً، وهي أن المواطن يجب أن يبقى إلى جانب الدولة ضد الظروف، وغير مسموح أن ينتقل المواطن من جانب الدولة إلى جانب الظروف، من هنا حري بالحكومة أن تخرج إلى الرأي العام الذي تعتبره رأسمال أكثر أهمية من بقية أنواع رأس المال، وتخاطبه بشفافية وصدق وموضوعية وهذا ما ننتظره منها، مع مقترح تطبيق استثناء بتخصيص جلسة حكومية شهرية تنقل على الهواء مباشرة لبحث واقع المعيشة، ولا ضير من إتاحة المشاركة في الرأي عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفق آلية محددة، وذلك من المواطنين أبناء هذا البلد الذي صمد ثماني سنوات في وجه الإرهاب والذي من غير المقبول أن يسلب منه النصر أبداً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن