قضايا وآراء

هل يمكن أن نعول على الصين؟

| فارس الجيرودي

«الصين تغتصب بلادنا اقتصادياً، وتسرق فرص العمل من مواطنينا، ولا يمكننا السماح لها بالاستمرار بذلك».
لم يُعطَ هذا التصريح للمرشح الأميركي دونالد ترامب الأهمية التي يستحقها في وسائل الإعلام، مقارنةً بما أدلى به ترامب خلال حملته الانتخابية من تصريحات حول إعجابه الشخصي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين مثلاً، على حين لم تسمح ما يسمى مؤسسات الدولة العميقة في أميركا لترامب بترجمة إعجابه الشخصي ببوتين تقارباً سياسياً مع روسيا، ولم يجد ترامب إلا التأييد في دوائر صنع القرار الأميركي تلك، للحرب الاقتصادية الشرسة التي بدأها مع الصين منذ دخوله البيت الأبيض.
فبالإضافة إلى رفع الرسوم الجمركية الأميركية على السلع المستوردة من الصين التي وصلت في بعض الحالات إلى نسبة 25 بالمئة، وهو ما يخرق كل مبادئ التجارة الحرة التي ظلت الولايات المتحدة تنادي بها لعقود طويلة، وجهت الإدارة الأميركية رسالة حادة شديدة الوضوح للصين نهاية العام الماضي، من خلال اعتقال المديرة الهامة في شركة هواوي مينغ وانغو، وهي ابنة مؤسس الشركة الصينية المرشحة لتصبح خلال السنوات القادمة، شركة الهواتف المحمولة الأكثر مبيعات في العالم، والأولى في مجال تصميم شبكات نقل البيانات من الجيل الخامس.
ترافق اعتقال مينغ وانغو في كندا بناءً على طلبٍ قضائي أميركي، مع قرار من الإدارة الأميركية بحظر استخدام المعدات التي تنتجها شركات الهواتف الصينية المحمولة في المؤسسات الحكومية الأميركية، بدعوى الخشية من استخدامها في عمليات التجسس من الحكومة الصينية، ويمكننا أن نقرأ في نص رسالة الاعتقال تلك، عدة نقاط:
– فيما تسامحت الولايات المتحدة مع سيطرة الصين على قطاع الصناعات الاستهلاكية التقليدي، كصناعة الأجهزة المنزلية، ودخولها الأخير بقوة قطاع صناعة السيارات، فإنها لن تتسامح مع المجال الأخير الذي لا يزال الغرب يحتفظ بالتفوق النوعي فيه: مجال الذكاء الصنعي وتكنولوجيا الاتصال والشرائح الإلكترونية الدقيقة، وهي لم تتوان عن خرق أي خط أحمر في سبيل إيقاف التطور الصيني المتسارع في هذا المجال، حيث وفرت الصين خلال العقدين الماضيين سلعاً رخيصة للمستهلك الغربي، وأرباحاً كبيرة للمستثمرين الغربيين الذين نقلوا معامل إنتاجهم إليها، بسبب رخص اليد العاملة الصينية، ولا تريد واشنطن أن يتكرر الأمر نفسه فيما يخص الهواتف المحمولة وتكنولوجيا شبكات نقل البيانات.
– السطر الثاني المهم في الرسالة الأميركية هو رفض الاعتراف بالمكانة الاستثنائية للصين التي تميزها عن دول العالم الثالث، وتعطي لمواطنيها حصانة حمل جنسية دولة عظمى، تمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن، وهو الرفض ذاته الذي تواجهه روسيا وأي دولة لا تنتمي للمنظومة الغربية.
– كما اختارت واشنطن كندا كأرض تنفذ عليها عملية الاعتقال، لتفهم بكين، أنها تواجه مع الولايات المتحدة جبهة عريضة من الدول الغربية الحليفة للولايات المتحدة، وهي الدول التي تمثل في الواقع الأسواق الرئيسة المستوردة للمنتجات الصينية.
لكن الصين ليست الطرف الوحيد في العالم الذي يواجه العدوانية الاقتصادية الأميركية، فعلى خلفية تدخلها العسكري إلى جانب الدولة الوطنية في سورية، واجهت روسيا في وقت سابق من هذا العام، وكإحدى نتائج العقوبات الغربية عليها، انهيار أسهم شركة روسال، أحد أكبر شركات التعدين في العالم، وواحدة من أكبر خمس شركات روسية على الإطلاق، حيث وصلت الشركة إلى حد الإفلاس، كما واجهت دول أخرى حليفة تقليدياً لواشنطن كتركيا، عقوبات مماثلة أدت إلى انهيار حاد في عملتها المحلية، هذا بالإضافة إلى العقوبات القديمة المتجددة على إيران إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي معها.
لذلك كان من البديهي ووفقاً لقانون الفعل وردّ الفعل الذي يسري في عالم السياسة تماماً كما في عالم الفيزياء، أن تسعى مجموع تلك الدول المتأثرة بأضرار الغارات الاقتصادية الشرسة التي تشنها واشنطن على العالم، إلى تأسيس نظام اقتصادي عالمي بديل، من النظام الاقتصادي الحالي الذي تهيمن عليه واشنطن وتتحكم بمفاصله، من هنا ظهر بنك «التنمية الجديد» الذي تموله دول البريكس «الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا»، حيث تخطط هذه الدول لجعله الذراع الاقتصادية الجديدة لها، في مواجهة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين تمولهما الولايات المتحدة الأميركية، كما أعلنت القوى الخمس السابقة عن خطة إستراتيجية جديدة لتأسيس شبكة إنترنت بديلة من الشبكة الحالية التي تسيطر عليها أميركا.
إضافة إلى ما سبق ورداً على العقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن عبر تحكمها بنظام تحويل الأموال العالمي «السويفت» على الأفراد والشركات والدول، أعلنت روسيا في تشرين الثاني الماضي الانتهاء من تصميم نظام سويفت روسي يضاهي نظام السويفت الدولي الحالي، كما أعلنت أن كلاً من البنوك المركزية في الصين وإيران وتركيا سيعتمدون هذا النظام إلى جانب البنك المركزي الروسي.
على الرغم من كل التحولات الإستراتيجية السابقة الذكر، التي تبشر بعالم جديد منعتقٍ عن أسر الهيمنة الأميركية، ما زال البعض من المنتمين لتيارات اليسار في منطقتنا يردد: لا تعولوا على الصين وبوتين في مواجهة الجموح الأميركي، مكرراً حقيقة بسيطة مفادها أن الصين وروسيا يبذلان كل ما في وسعهما لتجنب الصدام مع واشنطن، على حين يتناسون بالمقابل أن الجموح الأميركي لم يترك فرصةً لأحد في هذا العالم بتحييد نفسه، وكأننا في سورية أو إيران أو كوريا الديمقراطية كنا نسعى إلى الصدام مع واشنطن أصلاً لو لم تضطرنا لذلك.
حسب هؤلاء المتشائمين لا أمل في مقاومة التغول الأميركي إلا باستعادة الشيوعية والاتحاد السوفييتي من متاحف التاريخ السياسي، وكأن الإيديولوجيات تمتلك قدرة تأثيرٍ على السياسات الدولية أكبر مما تمتلكه حقائق الإستراتيجيات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن