ثقافة وفن

توفيق بركات.. صوت الصفاء في كلمات الأغنية

| أحمد محمد السّح

ندهت روحه ذاكرتي حين سمعت إحدى أغنياته، وقفزت صورته إلى بالي في آخر أيام حياته حين ظهر في تقرير أعدّ أثناء حفلٍ تكريمي لإطلاق الثنائية الغنائية الشهيرة بين العملاق الراحل وديع الصافي، وشمس الأغنية اللبنانية نجوى كرم «وكبرنا» سنة 2003، حينها ظهر الشاعر الغنائي، توفيق بركات، على فراش المرض مصاباً بفشلٍ كلوي، يحتاج عملية غسلٍ أسبوعيةٍ لكليتيه، لم يجرؤ على الاعتراف في وقتها أنه ندم على السير بطريق الفنّ والتأليف الغنائي في هذا الشرق الحزين، لكن دمعةً كبيرةً فضحت كمّ الألم الذي يعانيه هذا الشاعر الرقيق، لم تطل حياة توفيق بركات بعد هذا التقرير الذي صوّر إهمال الفنانين والشعراء في آخر حياتهم، ففي 19 كانون الثاني عام 2004 غادر توفيق بركات الحياة إثر سكتةٍ أصابت القلب الرهيف الذي نطق شعراً بلسانٍ صادق تاركاً وراءه ما يزيد على ستة آلاف أغنية، كان للشحرورة صباح حصة الأسد فيها.
تعرفُ توفيق بركات من دون أن تعرف اسمه بالضبط، تعرفه من أغنياته التي تتردد يومياً في أي بحثٍ في الأغنية اللبنانية التي لم يغادرها ولم يتركها ولم يعوج لسانه القروي البسيط ليكتب بغيرها، هذا الشاعر جاء إلى بيروت عاشقاً للأغنية يعرف كيف يرتب أحاسيسه في كلمات متهرّباً من الزجل والميجنا والمعنّى ومن قول شعرٍ أشبه بالفصيح ويتجاوزه لسورياليته ورهافته، كما فعل ميشال طراد، وسعيد عقل وطلال حيدر وجوزيف حرب. توفيق بركات أراد أن يكتب ما يقوله الناس. وقتها وكما يروي هو، زعل منه والده، وحذره من التوهان في شوارع بيروت، قائلاً له: «الله يرضى عليك يا ابني ضهري انكسر، اترك هذه المهنة وصفصفة الأغاني وأبقى في الضيعة لتساعدني في الأرض والحجارة» لكن رد توفيق بركات كان أن أقسم بأن يجعل من هذه الكلمات مناجاةً يرددها لبنان كله، لكنه لم يكن يدرك أنه سيصنع أغنيةً ترددها الأجيال، حتى هذا اليوم، هي أغنية «الله يرضى عليك يا ابني» التي غناها العملاق وديع الصافي، بألحانه هو، وتكرر العمل مع وديع الصافي في: «سيّجنا لبنان، الليلة ما برضى بكرة، ووصية أب..» وغيرها الكثير، المشكلة أننا لا نملك اليوم أرشيفاً حقيقياً لكل نتاج توفيق بركات، ولربما كان كثير من الأغنيات التي لا نعرف شعراءها وتنسب إلى غيره هي في الحقيقة له، وخاصة في تعامله مع وديع الصافي وصباح، وتبدو سمة الضياع في الأرشفة أكبر مع الصبوحة التي غنت فأدهشت وأنتجت نتاجاً لا يمكن حصره بدقة، ويقال إن بعض نتاجها غنته في حفلات ولم يسجل وربما كان بينه الكثير من اشتغالات توفيق بركات، فقد كان اعتمادها عليه كبيراً وكانت تعرّفه على الملحنين الكبار وتجد سهولةً كبيرةً في قول كلمات أغانيه، ومن القصص الطريفة أن الموسيقار محمد عبد الوهاب حين أراد أن يلحّن لصباح، أصرّ أن يلحّن لها باللهجة اللبنانية وكان طلب إلى توفيق بركات أن يكتب له كلمات الأغنية، فأرسل توفيق بركات كلمات أغنية «ع الضيعة» وكان البيت الثاني من الأغنية مكتوباً أساساً: «رحنا نبيّع ع المينا.. ضيعنا القلب وجينا» لكنّ صباح لم تعجبها هذه الإشارة، فعدّلها توفيق بركات «جينا نبيع كبوش التوت.. ضيعنا القلب ببيروت» وهنا تصدّى له عبد الوهاب رافضاً تلحين «كبوش التوت»، فحزن الشاعر الذي لم يكن يخرج من عباءة القروي البسيط ابن الضيعة، رغم تعامله الدائم مع أبناء الوسط، وخاف أن يأخذ عبد الوهاب كلاماً من شاعر آخر لصباح، لكن الصحفي «سعيد فريحة» تدخّل وشرح لعبد الوهاب أن «المينا» يعني خشباً وحديداً وبواخر تصفر وبضائع وملوحة بحر، أما كبوش التوت فتعني الضيعة وروح الضيعة وتفوح بعطر القرية ومحبتها، فاقتنع عبد الوهاب وكانت الأغنية التي نعرفها حتى اليوم، وتمثل عمق توهة القروي أو القروية اللذين يأتيان إلى المدن ومستوى الضياع الذي يعانيه كل إنسان في هذه الفوارق. استمر التعاون مع صباح «المجوّز الله يزيده – لحن ملحم بركات، دق الكف وقوم عالساحة- لحن نور الملاح، رجّال أحلى من المال – محمد محسن، روح تجوز ياعبدو، وعندي بستان، و شو اسمك – وكلها من ألحان فيلمون وهبة، يا دلع – لحن فريد الأطرش، وغيرها الكثير وربما لا نعرف أغنيات أخرى أنها له كما أشرت سابقاً».
كان توفيق بركات يشعر بأريحية خاصة بالتعاون مع الراحل فيلمون وهبة لأن فيلمون لديه ذات العبقرية وذات البساطة وكان كلاهما يكره التعقيدات في الفن وأوساط المثقفين، مع أن كليهما كان يعد من العمالقة، وتعايش مع العمالقة في الفن، هذا الحب وهذه النجاحات جرّت إليه فريد الأطرش حين غنى له «حِبينا» الأغنية التي رفعت من إيرادات الفيلم الذي كان فريد قلقاً من نجاحه، ومع رحيل الكبار بدأ توفيق بركات يعاني الإهمال شيئاً فشيئاً وخاصة بعد موت فيلمون وهبة، ومع أن صديق فيلمون الراحل ملحم بركات حافظ على التعاون معه بشكل دائم إلا أن ملحم كان أقل نتاجاً من فيلمون بكثير، ومن المعروف أن كلمات الأغاني في ذاك الزمن لا تصنع رصيداً مالياً للشيخوخة، وكما يقول توفيق بركات: «كثيراً ما كتبت كلمات وتقاضيت عليها بوسة دقن»، قصّر تجاهه الفن والفنانون لكن السلطان جورج وسوف وبعد الريبورتاج الذي ذُكر في بداية المقالة قام وأعاد غناء «الفرقة صعبة» وهي أساساً أغنية للملحن الراحل أمير يزبك، لكن الوسوف دفع له مالاً نقداً محاولةً منه في شد انتباه الفنانين إلى توفيق بركات، لكن الأغنية لم تصدر حتى 2006، وكان حينها توفيق بركات قد رحل، كثيرون غنوا له « وردة، نجاح سلام، سميرة توفيق، نجوى كرم، راغب علامة، وغيرهم الكثير» لكن سكتة القلب تجبر الإنسان أن يقف أمام تجربة الحزن العميق التي عاشها هذا النبع اللبناني الصافي لستٍ وسبعين سنة، كان ختامها مؤلماً وحزيناً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن