قضايا وآراء

الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة والمنطقة

| تحسين الحلبي

تحت عنوان: «لماذا تتعرض أميركا وبريطانيا للتدمير الداخلي؟» نشر الموقع الإلكتروني «زيرو هيدج» تحليلاً لتاينير ديردين عرض فيه كيف تتدهور قدرات النفوذ والتأثير البريطاني والأميركي لأنهما كانتا إمبراطوريتين تاريخيتين وليس في مقدور كل منها التسليم بنوع من المساواة النسبية مع دول أو قوى كبرى، فهذا كان من الأسباب التي جعلت بريطانيا لا تتحمل استمرار وجودها في الاتحاد الأوروبي كدولة أوروبية تتشارك في المصالح مع بقية الدول، وهذا أيضاً ما جعل الإدارة الأميركية في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب تبدأ بفقدان قدرتها على فرض قواعد نظامها الأحادي القطب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته العالمية فقد وحدت واشنطن نفسها أمام الصين كدولة كبرى في الاقتصاد والقوة العسكرية واتساع المصالح، وبجانبها نهضت روسيا الاتحادية بفضل بنيتها التحتية العسكرية والصناعية والنووية وفرضت على العالم والولايات المتحدة بالذات تحالفاً روسياً صينياً يقدم الحماية والدعم لكل من يتعاون معه من دون أن تتمكن الولايات المتحدة من عرقلة وإيقاف عجلة تطور علاقاته الدولية. ولذلك يستنتج تحليل ديردين أن إمبراطورية كالولايات المتحدة تعودت أن تستعمر البلدان بسهولة وأنانية وجشع وقدرة سيطرة سريعة عسكرياً لكن الواقع على الأرض الآن لم يعد يقدم كل هذه السهولة لها في فرض استعمارها وهيمنتها المطلقة ولم يعد إلا القليل جداً من الدول المرشحة للاستعمار على الطريقة الاستعمارية القديمة.
الحقيقة أن عهد انتشار القوة العسكرية الأميركية الذي تكثف بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة في كل القارات كان نتيجة لاتساع الفراغ في الدول التي كانت بريطانيا الإمبراطورية الاستعمارية تحتلها، ثم فقدت قدراتها على حمايتها بعد استنزاف قوتها في تلك الحرب هي ونظيرتها القوة الاستعمارية الفرنسية، فالرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور فرض سياسة تعبئة الفراغ ونجح في الخمسينيات في توسيع عدد القواعد العسكرية الأميركية وورث عن بريطانيا مستعمرات كثيرة بتسليم بريطاني استمر حتى الستينيات، وفي بداية الألفية الثالثة لاحظت الولايات المتحدة أنها بحاجة لمشاركة بريطانية وأوروبية لاحتلال أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003 وغرقت في أفغانستان حتى الآن ثم أجبرت في العراق على سحب قواتها بعد تسع سنوات، وما تزال تصارع من دون جدوى بعد 17 عاماً من احتلالها لأفغانستان، وقد حدثت هذه التطورات في سنوات كانت تشكل فيها الإمبراطورية الأميركية القوة الكبرى للقطب الأوحد، وبدأت في السنوات العشر الماضية روسيا الاتحادية تقف في طريق ووجه النظام الأميركي الأوحد وتفرض من قلب الشرق الأوسط ومن سورية بالذات قواعد جديدة للمجابهة مع الولايات المتحدة وحلفائها مثل بريطانيا وفرنسا.
ولذلك يرى عدد من المؤرخين الأميركيين أن الإدارات الأميركية حاولت وهي في أقصى قدراتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي توسيع قواعد وجودها العسكري لتشمل العراق وسورية وتطويق إيران وتغيير الحكم في سورية وإيران، ولكنها هزمت حين أجبرت على سحب 99 بالمئة من قواتها من العراق وحيث أجبر ترامب على الإعلان عن سحب وحداته العسكرية من شمال سورية وحين وصلت سياسة استخدام القوة العسكرية الأميركية ضد إيران إلى اللا جدوى، ويخلص ديردين إلى الاستنتاج أن هذه الانتكاسات الأميركية هي التي ولدت أكبر أزمة حكم داخلية في الولايات المتحدة بين ترامب وأهم وزاراته في الجيش والسياسة الخارجية، وها هو ترامب يجد نفسه بين دول حليفة تاريخياً للولايات المتحدة تحكمها تناقضات داخلية وفي علاقاتها مع بعضها، فتركيا تسير باتجاه مع قطر تخالفه السعودية والإمارات ودول مثل مصر وتونس والجزائر تشق طريقاً في تنويع علاقاتها مع الساحة الدولية من دون رضى من الولايات المتحدة، بينما تشكل سورية وإيران مع تقاربهما مع العراق أكبر قاعدة إقليمية تناهض الهيمنة الأميركية وتهدد مصالح أميركا وإسرائيل بشكل لم يحدث من قبل بفضل تحالف أثبت قدراته العسكرية والسياسية مع روسيا الاتحادية والصين، فالمستقبل لهذه القوى الصاعدة أمام تراجع قوة الإمبراطوريات الاستعمارية الثلاث البريطانية والفرنسية والأميركية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن