ثقافة وفن

حماة مدينة أبي الفداء.. مدينة عريقة تروي قصة حضارة

| المهندس علي المبيض

تحتل سورية مكانة فريدة في تاريخ البشرية وقد كان فضلها كبيراً على تطور الشعوب ورقيها من الناحيتين الفكرية والروحية أكثر من أي منطقة أخرى في العالم وهي وإن كانت صغيرة في مساحتها إلا أنها كبيرة جداً في تأثيرها في مجريات الأحداث في المنطقة ومنذ العصور القديمة.
ومن المعلوم لدى الجميع أن أهمية الهوية الثقافية السورية وخصوصيتها تقاس بمجموعة بقايا الآثار التي خلفتها الحضارات والممالك التي تعاقبت على هذه الأرض الطاهرة سواء كانت آثاراً ولقى أثرية أم مخطوطات ووثائق ونصوصاً، وتقاس أيضاً برجال العلم والأدب والفلاسفة والقامات والشخصيات المميزة التي شكلت منارات مهمة في التاريخ السوري الحافل.
ومن واجبنا جميعاً جهات عامة وخاصة وأفراداً أن نبذل جهودنا كي لا تنقطع سورية عن ماضيها وفي الوقت نفسه ألا تبقى بعيدة عن مواكبة العالم الحديث، والعمل على الحفاظ على الذاكرة الوطنية ليس بهدف البقاء في الماضي والتغني بذكرياته وأمجاده بل بقصد استعادة الذاكرة واستحضارها، ومن أهم ثمرات استعادة الذاكرة البرهنة على كفاءة عقلنا وقدرته على الإبداع والتفكير والمعرفة ومد جسور التواصل المعرفي بين الماضي والحاضر.

ونؤكد من خلال ذلك أن الإنسان السوري الذي ساهم منذ القدم في كتابة أمجاد هذا التاريخ المشرف وشارك في بناء الحضارات المتعاقبة جدير بأحفاده اليوم المحافظة على مخرجات تلك الحضارات وإعادة بناء ما تهدم ورأب ما تصدع والمشاركة بفعالية في المنظومة الحضارية العالمية التي يحاول أعداؤنا بشتى الطرق والأساليب تدميرها أو تزويرها أو تشويهها، والتي تشهد على عظمة هذا التاريخ الحافل الذي يمتد لأكثر من مليون عام.
ونؤكد فيما ذكرناه بالمقالات السابقة أهمية التاريخ السوري كأحد أهم روافع الفن والفكر والثقافة والاقتصاد والتنمية المجتمعية..
واليوم يجد السوريون في تاريخهم المجيد ينابيع مختلفة لثقافة ثرية متنوعة خصبة يمكن أن تشكل عاملاً موحدأ وأرضيةً مشتركةً ثابتةً لبناء الحاضر واستشراف المستقبل وهي تساهم بشكل كبير في تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطياف وذلك بغية جعل التواصل في حضاراتنا نهجاً سليماً يفيض على الكون حضارةً وثقافةً وعلماً.
وكنا في المقالات السابقة قد تحدثنا عن القلاع والحصون كأحد المعالم التاريخية في سورية وقد وصل بنا الحديث إلى القلاع في محافظة طرطوس حيث أعطينا لمحةً موجزةً عن أغلب القلاع والحصون في المدينة فتحدثنا عن قلعة أرواد، مدينة عمريت، قلعة الخوابي، قلعة الشيخ ديب، حصن سليمان، قلعة الكهف، برج ميعار، قلعة العريمة، قلعة يحمور، قلعة العليقة، برج صافيتا، قلعة القوز، قلعة أم حوش، قلعة القدموس، برج تخلة، حصن مرقية، قلعة بانياس، برج الصبي، قلعة المرقب.
وفي مقالنا اليوم سننتقل للحديث عن القلاع في مدينة حماة ونجد أنه من المناسب أن نعطي أولاً لمحةً مختصرةً عن المدينة نفسها، إذ تعتبر مدينة حماة من المدن القديمة في سورية وتعود تسميتها إلى كلمة حمث في الكنعانية والآرامية وتعني الحصن وأطلق عليها اسم أبيفانيا في العصر الهلنستي وظلت تحمل هذا الاسم حتى العصر الروماني ومن ثم استرجعت اسمها القديم، وتشتهر حماة باسم مدينة أبي الفداء نسبةً إلى الملك الأيوبي عماد الدين إسماعيل المؤرخ والجغرافي الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تعاقب على المدينة الكنعانيون والحثيون والآراميون والآشوريون والكلدانيون والفرس والرومان.. وازدهرت في العصرين الأيوبي والزنكي وخاصة من الناحية العلمية والعمرانية.
كان لمدينة حماة سور كباقي المدن القديمة يعود تاريخ بنائه إلى الفترة الرومانية دمر بسبب الزلازل التي أصابت المدينة وكان لها عدة أبواب هي: باب غربي، المغار، النهر، القبلي، العميان، العدة، الجسر، حمص، النصر، النقفي، العرس، طرابلس، دمشق، البلد، وجميع هذه الأبواب قد اندثرت ولم تعد موجودة في وقتنا الحالي.
ومن يتجول في مدينة حماة يجدها مدينةً جميلةً ذات سحر رائع يخترقها نهر العاصي شريان الحياة في المدينة وقد ورد اسم نهر العاصي في حوليات الآشوريين منذ الألف الأول قبل الميلاد باسم «أرانتو» ثم تحول الاسم إلى «أورنت» في العصر الروماني أي الشرقي وسمي بالعاصي لأن معظم الأنهر في العالم تتجه عادةً من الشمال إلى الجنوب على حين خالف نهر العاصي ذلك فهو ينبع من ثلاث مناطق في لبنان ويتجه شمالاً ضمن الأراضي السورية مشكلاً وادي العاصي يمر في مدينة حمص ثم مدينة حماة ليصب في البحر الأبيض المتوسط يبلغ طوله نحو 571 كم أقيم عليه عدة سدود منها سد الرستن سد محردة وسد العشارنة، ويذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن سبب التسمية ربما يعود أيضاً إلى أن معظم الأنهار تروي الأراضي المجاورة لها بالراحة وبشكل مباشر ماعدا نهر العاصي الذي لا يقدم ماءه إلا عنوةً ورغماً عنه باستخدام النواعير العملاقة ذات الزئير الرتيب، وبالمناسبة فإن النواعير هي اختراع سوري معترف به عالمياً وتشكل حيزاً مهماً من الذاكرة الجمعية والمخزون الثقافي الشعبي وتعود بداية استخدام النواعير إلى عصر الآراميين ثم تطورت في العصر الروماني، والنواعير ليست مشهورة على مستوى المدن السورية فقط بل هي مشهورة على مستوى العالم، وتضم المدينة العديد من المواقع الأثرية ما يدل على استيطان الإنسان القديم هذه المنطقة منذ عصور ما قبل التاريخ.
قلعة حماة: وهي من أهم المعالم التاريخية في حماة وتقع في الجهة الشمالية منها تتربع القلعة فوق تل اصطناعي تجميعي كبير يرتفع نحو 30 م عن المناطق المحيطة به ويبلغ قطره نحو 250 م وهذا التل هو الموقع القديم لمدينة حماة وقد دلت التنقيبات الأثرية في التل الذي تنتصب عليه القلعة على وجود 13 طبقة فيها اصطلح على تسميتها من (A إلى M) يعود تاريخ أقدم طبقة إلى العصر الحجري في الألف الخامس والسادس قبل الميلاد حيث كانت حماة تتوضع حول التل وتشمل الطبقة E بقايا آثار الحي الملكي الآرامي وتقع في الجزء الجنوبي من القلعة، كما تم العثور في الطبقة الثالثة التي تعتبر من أهم هذه الطبقات على جذع تمثال من الحجر الكلسي يضع على رأسه قبعة مخروطية الشكل ويعود للألف الرابع قبل الميلاد، وقد حصن الحثيون القلعة وأقاموا فيها أبراجاً في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد واستكمل الآراميون تحصينها كما يحيط بالقلعة خندق يعبأ بالمياه من نهر العاصي ليزيدها منعةً وقوةً، ولم يبق من القلعة ماثلاً للعيان في الوقت الحالي سوى بقايا مندمجة مع سطح التل والتصفيح الحجري الذي يحيط به وأساسات تشير إلى حالتها قديماً ذلك أن سطح التل أصبح غابة كثيفة الأشجار وتحولت إلى متنزه لأهالي المدينة.
قلعة سلمية: تقع القلعة في وسط مدينة السلمية التي عرفت باسم سلاميس في العصر السلوقي وكانت من المدن السبع وقلعة السلمية هي قلعة كبيرة على مستوى الأرض تقريباً يعود فترة بنائها إلى العصر اليوناني والروماني وتمتاز بشكلها المربع طول ضلعها نحو 130 م يصل ارتفاع سورها نحو 8 م مدعم بثمانية أبراج في الزوايا ويشكل برج جدار السور الجنوبي باب القلعة يعود تاريخ تشييده للفترة اليونانية لم يتبق من القلعة حالياً سوى جزء من سورها بطول 20 م.
قلعة الربا: تقع القلعة على مسافة 15 كم شمال مدينة السلمية في الجهة الجنوبية لقرية الربا وهي عبارة عن حصن يتوضع على قمة تل بركاني بازلتي يرتفع نحو 100 م من السهل الغربي، يذهب بعض الباحثين أن تاريخ بناء القلعة تعود إلى الفترة الهلنستية، كما بينت التنقيبات الأثرية عن وجود بعض الفخاريات التي تعود للألف الثاني قبل الميلاد، تأخذ القلعة شكل شبه دائري قطره أكثر من مئة متر ويحيط بها سفح منحدر مبني من الأحجار البازلتية الطبيعية التي تزيد أبعادها عن 70 × 70 سم وقد اعتمد في رصف الحجارة على حجمها الكبيرة فلم يتم استخدام أي نوع من المونة لربط هذه الحجارة بعضها مع بعضٍ بل تم استخدام تقنية ربط النتوءات والتداخلات الطبيعية للحجر والتي أعطت هذا السور متانة وقوة وانطباعاً بالضخامة.
أما المدخل الوحيد للقلعة فيقع من الجهة الغربية بعرض نحو المترين، علماً أنه لم يتبق من القلعة حالياً سوى أنقاض.
ونؤكد ما ذكرناه في المقالات السابقة أننا لا نهدف من خلال نشر لمحات عن تاريخنا الحافل أن نقف على الأطلال أو نروي حكايات أجدادنا الذين قدموا للعالم العلوم والفنون المتقدمة بل لنشحذ الهمم ونؤكد للجميع أن السوريين كانوا على مر العصور أبناء حضارات عريقة ساهموا منذ القدم بإيجابية وفعالية في مجريات الأحداث.
والسؤال الذي يفرض نفسه ما الفائدة من هذا الكلام؟
وما النتيجة التي يمكن أن نصل إليها؟
أسئلة مهمة سنحاول في المقالات القادمة الإجابة عنها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن