ثقافة وفن

عبد الرحمن منيف.. نسر الرواية بجناحي العقل والعاطفة … الروائي الذي قرأ المستقبل وسجله قبل أن يحدث بعشرات السنين

| أحمد محمد السح

يمكن اعتبار الرواية العربية عنصراً حديثاً من حيث انطلاقة الإنتاج، لكنها اليوم باتت تنتج بغزارة وصارت تضم الغث والسمين، لكن الأهم أنك حين تتبع رحلة الرواية العربية يجب أن تقف مدهوشاً، أمام الصرح الروائي الذي بناه عبد الرحمن منيف، وليست دهشة الصدمة التي يأتي بعدها السكوت إنما الدهشة التي تشعل في العقل شرارة الاشتغال والجهد والتحليل والبعد عن المسلّمات.

نشر عبد الرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق عام 1973» التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني، بعنوان «الشريد» من بطولة سمر سامي وبسام كوسا، وأعدها للتلفزيون وأخرجها غسان باخوس، ولكنها ليست الرواية الأولى التي كتبها، إنما نشرها لكون روايته التي سبقتها كانت ذات حدة سياسية، منطلقاً فيها من فكره السياسي، وتخصصه الاقتصادي، فهو رجل يحمل شهادة دكتوراه في علوم الاقتصاد ومارس العمل في هذا المجال، والمهم أنه لم ينشر أدباً مراهقاً، إنما نشر أدباً من العيار الثقيل، منذ انطلاقته الأولى، ففي سن النضج (أربعون عاماً) انطلق منيف إلى عالم الأدب بعد أن مارس مهنته في علوم الاقتصاد وانتقل أو بالأحرى استبعد من عدد من البلدان العربية، فلقد كان ضيفاً ثقيلاً على الأنظمة مع أنه لم يتواجه مع أي نظام بشكل مباشر إنما كان ينوّر ويحذر باستنادات علمية من مخاطر الخطوات الخاطئة التي ترتكب، وما أكثرها، فكان الاستبعاد هو الحل الأمثل لهم، ولهذا فإننا حين نقول إن منيف روائي عربي، فنحن نشير إلى تعدد ارتباطه بالمدن والدول العربية فهو من بلاد نجد والحجاز، وكان والده تاجراً ينقل البضائع بين الشام والعراق، ووالدته عراقية، نشأ طفولته في عمان الأردن، حاول استكمال تحصيله العلمي في العراق لكنه أبعد عام 1955، ليذهب إلى مصر، وبعدها في بلغراد يوغسلافيا حصل على دكتوراه في الاقتصاد، ومنها عاد إلى دمشق ومن دمشق إلى بيروت ليعمل بالصحافة، حتى حين عودته إلى بغداد، ومن ثم دمشق التي دفن فيها بعد وفاته في 26 كانون الثاني 2004، مسيرة طويلة من الرحلات عاشها منيف، وعايشتها معه زوجته المثقفة السورية سعاد قوادري، تعرف هواجسه وأفكاره، وكيف يفكر في صناعة الشخصيات وكيف يترك لشخصياته خياراتها في الحركة، فلا يجبرها على الموت، ولا يجبرها على قرار، مع أنه يكثر من الشخصيات في رواياته، حتى تكاد تقول إن ورشة روائيين تشتغل على هذا السرد لا روائي واحد فحسب، ويبرز هذا أكثر ما يبرز في خماسيته «مدن الملح» التي تعتبر من أشهر الروايات العربية والتي صورت الحياة مع بداية اكتشاف النفط والتحولات المتسارعة التي حلت بمدن وقرى الجزيرة العربية بسبب اكتشاف النفط. وتعتبر شخصية «متعب الهذال» الرافضة لهذه التحولات صورةً للموقف العفوي لأصحاب الأرض ما أجبر السلطة أن تستعمل العنف ثم يذهب إلى تصوير أهل السلطة والسياسة في الصحراء التي تتحول إلى حقل بترولي. وتداخلات النفوذ الأميركي في تأسيس دولة بأجهزة موالية للسلطة ذات ملامح قاسية كالصحراء. ثم يعود منيف إلى الناس حيث لا تبقى العادات هي نفسها ولا حتى الأمكنة ويتغير حتى شكل الانتماء والهوية، فمدن الملح هي وثيقة مهمة تتحدث وتؤرخ عما عصف بالحياة البدوية من رياح حضارية أثرت بلا شك بحياة البداوة؛ فكان قادراً من خلال سرده على استتباع مشهدي، قادر في صفحة واحدة أن يرصد عدة مشاهد وانفعالات نفسية وعلائق مجتمعية، تخلق تحدياً من الناحية الفنية لتصور سينمائي أو تلفزيوني لأي مخرج قادر على تحويل هذا النص المفعم بالحياة والأفكار إلى وثيقة مصورة كما هو وثيقة مكتوبة، فكثير من الشخصيات تبدو عابرة أو مذكورة بمواقف صغيرة لكنها كلها قادرة على رسم ملامح البيئة والمجتمع، فعمد إلى صهر الأزمنة والأمكنة في خياله ووعيه، حاصراً مكانها في الذاكرة، وزمانها الوعي الإنساني، وأول ما يبرز هذا الصهر في عنونة رواياته، بشكل تعويمي «الأشجار واغتيال مرزوق، مدن الملح، قصة حب مجوسية، شرق المتوسط وغيرها الكثير» وكلها تحمل إشارات جاءت تفتح أفق دراسة المونتاج الزمكاني لتيار الوعي عنـد منيـف، ولاسيما أنه يقدم معاني إيحائية لبناء فني محكم في كثير من الأحيان، فقد استعمل المونتاج في افتتاحيات رواياته، إذ إن «المكان والزمان يمـثلان في أحيان عديدة البطلين الفعليين للروايات، ويتجلى ذلك في معظم الروايات إن لم نقل كلها. ففي مستوى العناوين والفواتح، لقد استعمل منيف الوسائل المونتاجية السينمائية للإفادة مـن وظيفتهـا فـي التعبير عن الحركة وتعدد الوجوه لتقدير الصور المتحركة للحياة المزدوجة، التـي تتداخل فيها الحياة الداخلية مع الحياة الخارجية في زمن واحد. فالمونتاج يهدف إلى السيطرة على تـداعيات الـوعي الفكرية التي ترد إلى الذهن بصور متقطعة، يتداخل فيها الماضي البعيد مع الماضي القريب وبشكل غير منتظم مع المستقبل. فينتقل الذهن من خلالها إلى أماكن متنوعة ومتداخلة. والتي سمّاها النقاد الاسترجاع الذي يعني: تداخل الماضي البعيـد مـع الماضـي القريب والحاضر في لحظة الحاضر، تمييزاً لها عن تـداخل المستقبل مع الماضي والحاضر في لحظة الحاضر والتي تسمى الاستباق، وكلها من مسميات السرد وعناصره المختلفة التي امتاز بها نص منيف، الذي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نمر على اسمه بعجالة فهو الذي عاش سبعين عاماً بدأ نشر الأدب فيها في آخر ثلاثين سنة فقط، فخلق تياراً ونهجاً، فلا تزال الكتب والمراجع والدراسات الأكاديمية تضج بمنتجه، ولا يزال الشارع العربي محتاجاً إلى الكثير من النهل من هذا المعين الذي عمل أول ما عمله أنه حرض العقل ولم يستثر مجرد العواطف والغرائز، وهي التهمة التي التصقت بالأدب، وما زال مفعولها سارياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن