ثقافة وفن

المخرجون السوفييت يقلبون معايير السينما العالمية … أعمال أثرت في عقل المشاهد ورسم التاريخ وكانت أجمل إنتاجات العالم

| إعداد: مها محفوض محمد

رغم السيطرة الساحقة لـهوليوود على سوق السينما العالمية كان هناك زمن سيطر فيه المخرجون السوفييت وجعلوا من السينما السوفيتية أهم مدارس السينما العالمية إذ كانوا رواداً لما أصبح التقنيات الأكثر تأثيراً التي استخدمت بشكل أساسي في صناعة السينما الحالية.
لقد وقع الروس مبكراً في حب الفن السابع فأول فيلم خيال يعود إلى عام 1908 جاعلاً من صناعة السينما الروسية واحدة من الأقدم في العالم وفي العام 1913 كان في تلك البلاد 1300 سينما منها 67 في موسكو وبعد قيام الثورة البلشفية عام 1917 قام السينمائيون الروس بإحداث نقلة نوعية في فن السينما حيث تحمس عدد من المخرجين الشباب المتشبعين بالأفكار الاشتراكية للعمل منهم سيرغي ايزنشتاين ودزيغا فيرتوف وبودوفكين وإلكسندر دوفجينكو وقبلهم ليف كوليشوف كما أعلن لينين في وقت مبكر أن «السينما هي الأهم من بين الفنون» الأمر الذي دفع به إلى تأميم الصناعة السينمائية عام 1919 ليتم بعدها بقليل إحداث أول مدرسة للسينما في العالم.

القادة السوفييت تعاطوا مع الفيلم وسيلة رئيسية للتواصل مع الشعب وتوجيه الجماهير وتوعيتها مشجعين على إخراج الأعمال الأكثر الواقعية بتصوير واقع الحياة اليومية والإقلاع عن التقاليد ودعم المجتمع الشيوعي باستخدام الأفلام وسيلة للدفاع عن الثورة ونشر الفكر الاشتراكي وقد شكلت الأفلام الوثائقية منفذاً أساسياً للسينما السوفيتية الفتية»، والتوجه الذي قاده لينين أعطى للمخرجين حرية الإبداع وفتح الطريق أمام العديد من كتاب السينما الذين تركوا بصمتهم إلى يومنا هذا، فالأفلام كان يجب أن تصنع من أجل عامة الناس والفنان مثله مثل المهندس والعامل فهو جزء من هذا الإنجاز الكبير.
كما اعتبر تطور السينما تطوراً ألهمته الثورة، المخرج سيرغي ايزنشتاين (1898 – 1948) يقول: «لسنا نحن الذين نصنع سينمانا، الزمن الثوري هو الذي يصنعها ويصنعنا» ففي فيلمه «مدرعة بوتمكين» أحد الأفلام الأكثر تأثيراً في تاريخ السينما – الذي وصفه النقاد في العام 1958 بأنه أجمل فيلم في تاريخ الفن السابع – صنع لقطات للتأثير المباشر في عقل المشاهد من أجل شده وتعاطفه التام مع الثورة الروسية وبهذا الفيلم سمي أبا فن المونتاج السينمائي الذي يتميز بتصادم الصور والتحريض الإيقاعي وما سمي فيما بعد نظرية «المونتاج الذهني» وهي ماركته المعروفة وله عدة طرق في المونتاج الرمزي والمتري والنغمي والإيقاعي وعبر هذا المونتاج يقدم أفكاراً معقدة في مشاهد تعتمد على تأثير اللقطات المتتابعة وهذا ما يشاهد بشكل خاص في فيلمه الشهير «الإضراب» عام 1915 الذي يروي قصة إضراب عمال في أحد المصانع خلال حكم القيصر وما تعرض له العمال من مجزرة قام بها رجال الشرطة وفيه يستخدم طريقة تقوم على أنه من خلال تجاور صورتين أو أكثر يمكن استنباط معنى يختلف عن المعنى المنفرد في الصورة الواحدة أي مفهوم لقطة تتبعها لقطة تعادل معنى جديداً وقد اعتبر الفيلم إنجازاً في الشكل والمضمون ومنذ ذلك الوقت أعيد استخدام هذه التقنية عدداً لا يحصى من المرات للحصول على عمل مشابه وقد ألهمت فكرته بالخلق عن طريق المونتاج العاملين والدارسين في مجال الفن السينمائي نظرياً وتطبيقياً.
أيضاً المخرج دزيغا فيرتوف (1896 – 1954) كان صوتاً مؤثراً في ترويج «الواقعية الاشتراكية» في صناعة السينما حيث غير تماماً النظرة للأفلام الوثائقية حين صور سلاسل «كينو – برافدا» (سينما الواقع) 23 جزءاً استخدم فيها صور الحياة اليومية حاول من خلالها إقامة علاقة على نطاق أضيق مع الشعب ليلغي ماكان يسميه «وجهة نظر بورجوازية» لأفلام من العهد ما قبل السوفيتي وكانت علاقة فيرتوف مع عامة الشعب وثيقة حيث كان يضيف إحداثياته في نهاية كل حلقة، عمله الأشهر «الرجل ذو الكاميرا» الذي حاز تصنيف معهد الأفلام البريطاني عام 2012 كثامن أفضل فيلم في التاريخ، الفيلم تم إنتاجه عام 1929 ينتمي إلى الأفلام الصامتة يتميز بلغته البصرية المعبرة وهو أحد الأفلام الوثائقية والإخبارية صور أحداث الحياة اليومية في مدن الاتحاد السوفيتي فساهم بصنع لغة سينما عالمية حقيقية وألهم بأسلوب «الفن الغريزي» فيما بعد التيارات المؤثرة في «سينما الحقيقة» وموجة جديدة من الأجيال الشابة في فرنسا خلال أعوام الستينيات وحسب بيانات حديثة فإن المخرج البريطاني ستيف ماكوين قال: «إن أعمال فيرتوف كانت مصدر إلهام لفيلم «اثنا عشر عاماً من العبودية» الذي حاز جائزة أوسكار.
أما المخرج ليف كوليشوف (1899 – 1970) الذي تصادف هذا الشهر الذكرى المئة والعشرون لولادته ولهذه المناسبة كتب عنه موقع لوفيغارو تحت عنوان: « كيف قلب المخرجون السوفييت الفن السابع: «إنه من أهم صناع السينما في تلك المرحلة حيث برهن ببراعة كيف يتم إدراك المونتاج من الجمهور فمع أفلامه أنت مع ما يشبه اختباراً بسيكولوجياً أكثر منه البحث عن نظرية فيلم فهو مونتاج رمزي حين يقدم لك مشهد رجل فاقد لأي تعابير في الوجه يتبعه بلقطات مشاهد مختلفة: وعاء من الحساء وطفل ميت وامرأة جميلة وبذلك تصلك انفعالات مختلفة جوع وحزن وعاطفة فتتشكل انطباعات مختلفة لدى المشاهد بأن هذا الشخص قاتل أو حزين لفقدان ما، حيث إن الطريقة التي ترتبط فيها تلك الصور هي التي تخلق المعنى.
يقول كوليشوف: «المونتاج يقدم الإيحاء والمشاهد يصوغ المعنى» أي بتأثير اللقطات المتتابعة يمكن أن تتغير الطريقة التي يتم فيها إدراك المونتاج بمعان مختلفة وقيم جمالية أخرى الأمر الذي حدا بمخرجين كبار اتباع الأسلوب ذاته مثل الفريد هيتشكوك وقد اعتمدت طريقة كوليشوف هذه في قسم الأفلام التابع لمعهد موسكو الذي يعد أول مدرسة سينمائية في التاريخ كما استخدم سيرغي ايزنشتاين نظرية كوليشوف في أفلامه «مدرعة بوتمكين» و«ثورة أكتوبر».
يضاف إلى قائمة هؤلاء المخرجين الكبار أيضاً المخرج الشهير اندريه تاركوفسكي (1932 – 1986) الذي غالباً ما صنف بالشاعر البصري والمتأمل الثاني بعد بيرغمان لأن أفلامه تتميز بالتأمل الشديد وقد اعتبر على نطاق واسع رائد «السينما الشاعرية»، والده ارسيتني تاركوفسكي كان شاعراً وقد ألهمه الكثير في صناعة السينما يقول: «الشعر هو طريقة خاصة للاتصال بالعالم فيرى في الشعر فلسفة ترشد الإنسان وتلهم الفنان بذل قصارى جهده لردم الهوة التي تفصل الشعر عن السينما على الرغم من أن نمطه الجديد في صناعة السينما التجريبية في تلك المرحلة لم يكن معروفاً فأصبح سريعاً أحد المفضلين من جمهور كبير ومن النقاد في العالم، أراد أن يجعل من الشعر معادلاً لأداة فنية فاعلة في السينما واعتبره مصدر إلهام لنظريته حول المونتاج السينمائي التي وصل بها إلى ما سماه نظرية «النحت في الزمن» حيث يقول: «المونتاج كالتركيب يقاطع مرور الزمن يعترضه وبآن واحد يمنحه شيئاً جديداً وانحياد الزمن يمكن أن يشكل وسيلة لإعطائه وصفاً إيقاعياً هو النحت في الزمن».
المخرج الشهير انغمار بيرغمان هو أحد المخرجين المتيمين بـتاركوفسكي حين سئل عنه قال: إنه أكبر مخرج فهو الذي ابتدع لغة جديدة جاءت ملتزمة مع طبيعة الفيلم حين يصور الحياة في حالة تأمل وفي حالة حلم، لقد صنع تاركوفسكي ماكنت أحلم بصنعه طوال مسيرتي الفنية».
ترجمت أفلامه إلى عشرات اللغات وعرضت في أهم مهرجانات العالم بما فيها مهرجان كان. المخرج الدانماركي لارس فون ترايير (مؤسس حركة سينمائية طليعية عرفت باسم دوغما 95) أطلق عليه «إله السينما». أبرز أفلامه فيلم «طفولة إيفان» الذي تلقى الجائزة الأولى في مهرجان فينيسيا وقد أعجب بالفيلم الفيلسوف جان بول سارتر الذي سارع للدفاع عنه ضد هجوم النقاد الفرنسيين، أيضاً فيلم «المرآة 1975» وفيلم «سولاريس 1979» الذي أعادت إنتاجه السينما الأميركية فيما بعد وأخرجه ستيفن سوديبرغ تقديراً للمخرج الراحل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن