ثقافة وفن

دمشق الخير بأهل الخير…مدينة تعرف كيف تمنح العطاء بكرامة وللجميع من دون تفريق وللغرباء قبل الأقرباء

منير كيال : 

تُعتبر معالم دمشق مقصداً ومزاراً لزوار دمشق، من الوفود السياحية القادمة من شتى أنحاء العالم لقضاء الساعات الطوال في رحاب أحياء دمشق وأسواقها ومتاحفها، أكان ذلك متحف التقاليد الشعبية بقصر العظم أم المتحف الوطني، بل سوق المهن اليدوية، والوقوف بإكبار أمام مشيدات دمشق التاريخية، من خانات ومدارس وقيساريات وحمامات.
ذلك أن أهل دمشق لم يتوانوا عبر التاريخ عن طبع مدينتهم بطابع الخير والإيثار، فكان لهم أياد بيضاء في إعطاء مدينتهم طابعاً لا مثيل له في كثير من مدن العالم نذكر على سبيل المثال: ما كان يخصصه أهل اليسار بدمشق من أموال تدفع ثمن الأواني التي تنكسر مع الأطفال أو الأجراء والصنّاع والخدم، عن غير قصد، حتى لا يتعرض أحد من هؤلاء للأذى والإهانة.

ومن أعمال البرّ التي عرفتها دمشق، ما كان على شكل مشيدات ذات نفع عام، تلك المشيّدات التي وقف لها أهل دمشق، موارد مالية أو عينية، للإنفاق عليها، وعلى القائمين عليها، ومن ذلك ما كان يرتبط بتوفير المياه اللازمة للطهارة والاغتسال والنظافة، والمياه اللازمة لشرب الإنسان، بل للحيوان أيضاً حسبة لوجه الله تعالى.
ولعل من الجدير بالذكر الإشارة إلى المغاطس التي كانت بجوار المساجد، بأربعينيات القرن المنصرم «العشرين».. فلا يكاد يوجد مسجد بأحياء مدينة دمشق إلا وبجانب الموضأ أو دورة المياه مغطس شرعيّ لإسقاط الجنابة، كما تكاد نسبة كبيرة من حمامات مدينة دمشق، من أبنية الأوقاف الخيرية، وهذا يفسر بناء هذه الحمامات بالقرب من المساجد، وكان المستحم بأحد هذه الحمامات، يستحم ويأكل قرصين من اللحمة على العجين «الصفيحة» مجاناً لقاء قراءة الفاتحة عن روح باني وواقف هذا الحمام.
ومن ذلك أيضاً، ما كان يوقفه أهل الخير، من أموال وأرزاق للإنفاق على طلبة العلم من الوافدين من أنحاء متعددة من وطننا العربي، لتوفير إقامتهم بدمشق، وتوفير حاجاتهم الدراسية ومأكلهم وملبسهم.. كل ذلك بلا مقابل وحسبة لله تعالى.
ومن أوجه الخير التي أولاها أهل دمشق عنايتهم مرجة الحشيش التي تحولت فيما بعد إلى الملعب البلدي، ومن ثم أقيمت عليها أجنحة معرض دمشق الدولي.. هذه المرجة كانت مرجاً أخضر، تتخذ منه الخيول والسوائم الأخرى العاجزة والمتهالكة، مكاناً يتوافر فيه لها العشب والماء ما دامت على قيد الحياة، وقِس على ذلك من أوقاف خيرية للهرر «القطاط» الشاردة، فيما يعرف بمدرسة القطاط بحي القيمرية، فضلاً عن ذلك، كان بدمشق ما يُعرف بوقف حبس الميّت، يوم كان يُرجأ دفن المتوفى، حتى يُسدد ما بذمته من ذمم، تؤخذ من هذا الوقف بحي العمارة، إذا كان أهله غير قادرين على سداد ذلك.. ولا تزال في ذاكرتي أشياء وأشياء عن برّ أهل هذه المدينة الشمّاء المعطاء لو أتيت على ذكرها لطال بنا المقام.. فآثرت الاكتفاء.
فدمشق تستحق أن يكون أهلها، على ذلك النحو من العطاء، لأنها مدينة العطاء والبركة والجمال… وقد حدثنا عن جوانب من ذلك الرحالة ابن جُبير الأندلسي، عندما زار دمشق بالقرن السادس من الهجرة في سياق رحلته إلى بلاد الحجاز بقوله:
«دمشق جنة الله في أرضه، حباها الله الموقع والمياه، فأتى أهلها وتوّجوها بالأزاهير، وكحلوها بالرياحين، وفرشوا أرضها بالسندس النضير.. ظل ظليل وماء سلسبيل، تنساب انسياب الأراقم بكل سبيل، سئمت أرضها المياه، حتى اشتاقت للظماء، فتكاد تناديك الصمّ الصلاب اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب».
وأفاض الباحث الفرنسي روبين جيرار في وصف دمشق ودورها في بحثه «بيوت وقصور دمشق بالقرن الثامن عشر» بقوله:
«… عندما تقترب من دمشق، تتّسع أمامك بساتين الغوطة، فتعطي دمشق رداء متلألئاً شفافاً يضفي على دمشق السحر، فمن قمّة جبل قاسيون يستمتع المرء بمنظر رائع، تتراءى به دمشق رشيقة بيضاء بأسطحتها المستوية، ومآذنها الممشوقة، وسط الأشجار المحيطة بدمشق، كالبحر الصغير، بلونها المائل إلى الزرقة، وتعطيها أشعة الشمس لوناً قرمزياً يأخذ بالألباب».
وإذا لم يكن بمقدور أحد أن يجزم بمدى قدم هذه المدينة فقد أجمع المؤرخون على اعتبار مدينة دمشق أقدم مدينة سكنها الإنسان عبر التاريخ ومن يتجول بأزقة وحارات هذه المدينة يلحظ دورها المتلاصقة المتراكبة المتعانقة المتآلفة، تعانق وتآلف أهل دمشق محبة وإخاء. وبالتالي يتلمس المرء عبق تاريخ هذه المدينة يملأ حنايا أوابدها التاريخية العريقة وإذا لم تكن دمشق أيام الآراميين في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد أكثر من قرية كبيرة وسط غوطتها… فإن عمران دمشق ما لبث أن امتد وانتظم، وأصبح بدمشق شوارع على غرار ما كان لبابل وآشور، كما كان هناك سور له أبواب، دعت الظروف الأمنية إليه، وقد وقف هذا السور في وجه الطامعين بدمشق، وخاصة بعد أن قام القائد الآرامي: «روزون» بتأسيس مملكة دمشق الآرامية، ومن ثم نشاط هذه المملكة في ميادين التجارة في العالم القديم، وزاد في ذلك قيام ممالك آرامية أخرى في سورية منها مملكة «حاماه» ومملكة «شامال» الآراميتان، الأمر الذي حرّك المطامع الخارجية وجعل دمشق هدفاً للمطامع الخارجية، فكان أن وقعت سنة «605» قبل الميلاد بيد الآشوريين، ثم انتزعها الكلدان ثم الفرس الأخمينيون سنة 578ق.م ثم أصبحت بيد اليونان سنة 333 ق.م عقب معركة إيسوس في عهد الاسكندر الكبير، وبعد وفاة الاسكندر أصبحت دمشق في إطار الدولة السلوقية، ومن ثم بيد الرومان فالبيزنطيين إلى أن استردها العرب المسلمون وأصبحت عاصمة للدولة الأموية سنة 606 للميلاد، وقد عمدت الدولة الأموية إلى تنظيم سقاية دمشق من نهر بردى.. فنشأت أرباض، ومناطق سكنية، بالأراضي الزراعية القريبة من دمشق، كانت نواة لنشوء أحياء، ما لبثت أن أصبحت من كبار أحياء مدينة دمشق في أيامنا هذه.. ومن أهم تلك الأرباض ما كان في موقع حي الشاغور، وميدان الحصى وقصر حجاج والشرف الأعلى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن