من دفتر الوطن

ومضات سريعة عن الحب

| زياد حيدر

كان يقف مستنداً إلى مدخل المستشفى ينفث دخان سيجارته، بعينين محتقنتين ساهيتين نحو البعيد. سألتني المرأة التي بجانبي، أليس الممثل المصري الشهير؟ فأجبت أنه يعالج ابنته هنا من مرض عضال. أصرت أن نذهب نحوه، فقلقت في نفسي من هوس السيلفي الثقيل الدم، لكنها شدتني خلفها وبادرته بعطف: إننا سوريان ونعشق ما قدمته من جمال وإحساس سينمائي منذ أربعين عاما حتى الآن، وإننا لا نبحث عن صورة مشتركة، وإنما نريد مشاركتك الدعاء بالشفاء لابنتك الرقيقة، فتعود لذراعيك بكامل عافيتها، وإننا نتمنى أن نحضنك وتحضننا. فضمني والمرأة التي بجانبي بذراعيه حتى شممنا عطر حلاقته وسمعنا حشرجة صدره ببكاء مكتوم.. أي سيلفي هذا تلتقط؟!
تبدى لها مستغرقاً كلياً في تأمل عِرقها الأزرق الناعم النابق من تحت الجلد فوق نهاية إصبعها الوسطى، بشكل رهيف محسوس ليعود ويختفي قبل بداية المعصم بقليل. «هل يستحق كل هذا التأمل؟» سألته بصوت مشاكس، لا يخلو من دفء، فأجاب من دون أن يرفع عينيه ممسداً سطح العِرق برأس سبابته «بالتأكيد يستحق. فمن كثرة ما شاهدنا من موت، فإن أي تفصيل من تفاصيل الحياة بات يثير الدهشة والإعجاب».
كان البحر خالياً من أثر الموج، هادئا كما في فجر يوم تشريني، رائق المزاج، يهمس موجه همسا حين يستطيع.
جاءني في المنام أخضر، بلون حشائش الصخور لا شجيرات الوادي، دافئاً بالحد المثالي، بين عتبتي البرد والحر. مراكبه مبعثرة بأشرعة خيالية، تدفعها ريح خفية كما لو أنها فراشات حقل ملونة. يتحرك ماؤه مع حركة عيني، وهما تحاولان إدراك أفقه، حتى تبين لي في النهاية، أن نظري كان مثبتا في عينيها، كل ذلك الوقت الذي استغرقته غفوة البحار تلك.
كانت جميلة، ومثيرة. ينعش النظر إليها، أحلام يقظة كل رجل، فيمشي خلفها المعجبون ذوو الدم الحامي، يعدون خططهم، ويرسمون المصادفات المحتملة، عابثين بهواتفهم أمام عينيها، محركين رؤوسهم وأجسادهم بإيماءات لا تخلو من فظاظة.
لم تكن تنهرهم، ولا تصرخ بهم، ولا تنقضّ لترسلهم بعيداً، فسلاحها الوحيد الفعال، لم يكن سوى تلك الضحكة التي تطلقها لأبسط الأمور، فتذكرك بطفلة في سن الخامسة، تحرك براءتها أطرف الأفكار وأمرحها. تضحك فيخطو الرجال بعيداً، بعيداً من أثر الطفولة ذاك الباقي فيها حتى اللحظة.
أرادا أن يبتدعا تعاريف جديدة للحب… فقالت له إن الحب ببساطة هو «العودة بعد غياب طويل، مرير، قاس،.. للمنزل». سألته هي عن الحب، فقال إنه «ما لا ندرك قدره سوى بالفقدان». اتفقا ليلتها على البقاء في البيت، متعانقين.
كانا مستلقيين على رصيف بحري وعيونهما للسماء. وجهاهما متوازيان، متعاكسان، يراقبان معا غيمة بيضاء شاردة، تسبح في القبة الزرقاء، فتموج الأرض من تحتهما وكأنما تبحر بالتوازي مع مركب السماء الرقيق. تنهدا فالتفتت إليه معلنة « فليكن هذا الحب، بلا قيود، ولا اشتراطات. كغيمة تحركها نسمات صيفية بلا هدف ولا قرار».
فاته ذلك الموعد منذ أربعين عاما، لأن باص الجمعية الفلاحية الأخضر ببساطة أصابه عطل طارئ. سافرت هي، وفقد من بعد ذلك اليوم كل أثر لها. حتى صباح هذا اليوم الماطر في الرابع عشر من شباط، ناداه الموقع الأزرق، برسالة من مجهول يسأل: «هل تم إصلاح باص الجمعية الأخضر بعد أم لا»؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن