ثقافة وفن

ديوان القصيدة الواحدة… حين يذهب الشاعر بعيداً في ذاته … قباني والجندي ودرويش كنماذج

| أحمد محمد السح

يتفق الدارسون أن الشاعرين المهجريين الشقيقين فوزي المعلوف وشفيق المعلوف هما أول من استصدر ديواناً (مجموعةً شعرية كاملة) مؤلفاً من قصيدة واحدة فقط، فوزي في مجموعته «على بساط الريح» التي لم يكملها، ومات باكراً في عمر سبعٍ وعشرين سنةً فقط، وصدرت بعد وفاته، أما شقيقه شفيق فقد صنع مجموعته «عبقر» التي أراد فيها أن يحاكي الملحمة الشعرية ليسجلها كأول ملحمةٍ شعرية في الشعر العربي، فالشاعران انتسبا أو أسسا العصبة الأندلسية في سان باولو في البرازيل، ويبدو أن الشقيقين أرادا تحدّي المرحلة الشعرية أو التنافس فيما بينهما، لكتابة هاتين القصيدتين الطويلتين، ولكن السؤال الذي أهتم بالبحث في طياته هو: هل التحدي والتنافس هما العاملان الأساسيان اللذان يدفعان شاعراً إلى اقتصار مجموعته الشعرية على قصيدة واحدة؟ وعلينا أن نتفق أن كلمة ديوان، يستدل بها على أنها النتاج الشعري للشاعر خلال مسيرة حياته كاملةً، ولكن درجت كلفظٍ شائع تسمية كل مجموعة شعرية باسم ديوان شعر، كل ما نريده اليوم، وعطفاً على التساؤل سوف نقوم برحلةٍ في ثلاث مجموعات شعرية لثلاثة شعراء هم: «نزار قباني (1923-1998) في مجموعته بلقيس 1982، علي الجندي (1928 – 2009) في مجموعته طرفة في مدار السرطان 1971، ومحمود درويش (1941 – 2008) في الجدارية 2000» ثلاثة شعراء لثلاثة مجموعات كانت تشكل قصيدةً واحدة، تختلف كل منها عن الأخرى حتى في مرحلة الإصدار، ويختلف كل شاعر عن الآخر في نموذج تعامله مع النص، ولكن الشعراء الثلاثة تقاطعوا زمنياً ومعرفياً، وربما شعرياً.
يعرف الجميع أن المجموعة الشعرية «بلقيس» لنزار قباني هي قصيدة طويلة أصدرها بلحظة غضب وحزن على موت زوجته بلقيس الراوي، حيث اعتبر استشهادها مرتبطاً بشكل أساسي بالوضع العربي الرديء، والسعي عند العرب لتدمير أنفسهم وكل شيء جميل فيهم، أما مجموعة علي الجندي «طرفة في مدار السرطان» التي كتبها بين عامي 1969 و1970، فتهتم بإعجاب الشاعر علي الجندي بالشاعر طرفة بن العبد اليشكري، وحزنه على موت طرفة المبكر، في وصف ملحمي يربط مفهوم الموت النفسي والجسدي والتاريخي بالمعاصر، أما مجموعة درويش «الجدارية» فتعتبر من أكثر المجموعات دراسةً وتمحيصاً، فقد نيلت فيها شهادات في الماجستير والدكتوراه، وشهرتها لسببين أهمية اشتغالها وشعريتها العالية من درويش، والسبب الأهم هو شهرة درويش نفسه لأسباب متعددة، حيث يطرح فيها درويش رحلته الفلسفية فيعرّف العدم والوجود والحياة والموت في خوض عميق في تفاصيل اللحظة المعيشة. هذا الكلام الشمولي يوضّح الربط المبدئي بين هذه المجموعات الثلاث التي احتوى كل منها على قصيدة واحدة إنها مرثيات أو تتحدث عن الموت فالقاسم المشترك لهذه القصيدة هو الموت، فهل السبب في استصدار الشاعر قصيدة في الموت هو ما يجعله يكتب مجموعة كاملة على شكل نص أو بالعكس، ليس ذلك السبب وحده كافياً، فالشعراء وخاصة جيلي الستينيات والسبعينيات يكاد يكون الموت والفاجعة رفيق مفرداتهم الشعرية، ولكنه لم يرتبط دائماً بإصدار النص الشعري الضخم. ولكن هل من الممكن القول إن الشعراء أرادوا أن يظهروا قدرتهم الشعرية على استصدار نص ضخم تيمناً بأمير الشعراء أحمد شوقي حين كان يكتب نصوصاً تصل إلى خمسمئة بيت شعري وأكثر، هذا الشيء ممكن أن نقبله تجاوزاً مع قصيدتي محمود درويش وعلي الجندي لكنه غير مقبول، مع قصيدة نزار قباني لأن هذه القصيدة أقصر من قصائد أخرى له، نشرها ضمن مجموعات شعرية، فالحالة مع نزار هنا مختلفة لأنه أراد ألا تشارك بلقيس في مجموعتها امرأةٌ أو قصيدةٌ أخرى. الجامع الآخر بين جدارية درويش وطرفة في مدار السرطان للجندي أنهما تذهبان في النفَس الملحمي بعيداً، فكأنهما أرادا أن يفتحا النار على عدة جبهات في نصٍ واحد يسأل عن الوجود والله والرحلة والحب والحياة وتراكماتها، ويبرز ذلك بشكل أوضح في رحلة علي الجندي في مواضع متعددة منها:
(كلّما أمعنتُ في تجوالي النوميّ في هذا الفضاء الرحب.. لاح القمرُ الخائنُ مشدوهاً صفيحياً، وأحسستُ بثلجٍ يتشظى في عروقي..
تتناءى عني الرؤيا، تغاويني أحجار الشروق
فأداري وجهي المعصوب بالصمت، بحماي وشوقي
أجمع اللهثة، والنبرة والنأمة والهمسة، والحرف المدمّى..)
يبدو أنه من الضروري قبل الإغراق في تفاصيل كل نص من النصوص الثلاثة الضخمة أن نسأل هل كانت هذه التجارب مختلفة عن تجارب الشعراء الثلاثة كلٌّ على حدة، في الحقيقة فإن قصيدة بلقيس لم تختلف عن أي قصيدة من حيث اللغة التي كتبها نزار قباني فهي كانت من لغته إلا أنها أطلقت حالة غضب سياسية ومجتمعية عاشت مع قصيدة قباني طوال حياته الشعرية المتبقية، لكون فقدان زوجته تسبب له في ألمٍ ظلّ يعتصره لسنوات.
(بلقيس.. يا وجعي..
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى.. من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟
يا نينوى الخضراء.. يا غجريتي الشقراء..
يا أمواج دجلة.. تلبس في الربيع بساقها
أحلى الخلاخل..
قتلوك يا بلقيس.. أية أمةٍ عربيةٍ.. تلك التي
تغتال أصوات البلابل؟
أين السموءل؟.. والمهلهل؟
والغطاريف الأوائل؟
فقبائلٌ أكلت قبائل..)
ولكن بالنسبة لعلي الجندي فإن هذه اللغة لم تختلف عن كتابة علي الفجائعية وتفعيلاته المتنوعة وقدرته على النهل من معرفته الشعرية العالية وثقافته المميزة في الاستفادة من الجملة الشعرية العربية واستحداثها وخلق روح جديدة لها وخاصة أنه يكتب بلغته الخاصة ولغة مشاعره وهو الذي يخلق قصيدة تتلاءم مع شاعره المفضل الجاهلي طرفة بن العبد، الاختلاف كان الأوضح مع محمود درويش، هذا التكثيف والتحليق الشعري خلق منحنى جديداً في تجربة محمود درويش، فواحد من الاشتغالات على هذا النص ما قاله الناقد المغربي عبد القادر الجموسي في كتابه «التجلي الشعري في جدارية محمود درويش». الذي تناول فيه جدارية درويش بالنقد والتمحيص تبيانا لمواطن الشاعرية في غمارها، معتبراً أن شعراً لدى درويش يأتي مؤطراً
بمعرفة وتصوّر هندسي لقوام القصيدة، فهو يخفي مصادره المعرفية ويتقدّم نحونا كأنه على السليقة، من منطلق هذه الجدلية بين شعرية القصيدة وسياقها المعرفي
(لا شيء يوجِعني على باب القيامةِ.
لا الزمان ولا العواطف. لا
أحِسٌ بخفةِ الأشياء أو ثِقلِ
الهواجس. لم أجد أحدا لأسأل:
أين (( أيْني)) الآن؟ أين مدينة
الموتى، وأين أنا؟ فلا عدم
هنا في اللا هنا في اللازمان،
ولا وجود)
لم يصدر الشعراء هذه الأعمال في سنوات مبكرة إنما كان الثلاثة في مرحلة من النضج العمري والشعري، وبالتالي يسقط رغبة الاستعراض المنبثقة عند الشعراء الجدد على اعتبار تجاهلنا لفكرة الانبثاق الدائم في فكر الشعراء، وتجدد شبابهم مع أن هذا التجاهل لا يحتمل الكثير من الصحة لأن الشاعر طفل متجدد ومراهق دائم الاندفاقات للهرمونات الشعرية، وعندما يهرم يموت.
تبقى كل محاولة للمقارنة انتقائية في تشكلها وغير دقيقة في انفعالها وتناميها، وتطور لغتها، فالأصح أن تكون مختصة بالشاعر نفسه، وهي من الظلم والشمولية، تأتي بمحاولة قسرية لمطابقة التجارب الأدبية وجرها للانطباق على بعضها، وهذا صعب يصل حدود المستحيل، ولا يمكن تثمين التجربة بشكلها الاعتيادي من دون الذهاب إلى مساحات أبعد في ذات الشاعر، ولكن تبقى ضرورة المقاربة لمعرفة الإجابة حول الهاجس الفكري الذي يصيب الشاعر ويدفعه لكتابة نص يرغب فيه بتحدي نفسه وقارئه، لكتابة نص ضخم يصعب إلقاؤه على الجمهور دفعة واحدة، ويصعب أيضاً على القارئ تلقيه دفعة واحدة من كتاب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن