اقتصاد

بخصوص «أصل المشكلة»

| علي محمود هاشم

سيكون على التجار الإصغاء جيداً لما قاله شيخهم: «التاجر النظامي» لا يخشى عودة الجمارك إلى ممارسة عملها الطبيعي في مكافحة التهريب.
«التاجر المهرب» أو «المهرب التاجر» هو فقط من يتآكله الخوف جراء استيقاظ الحكومة قبل أفول الشفق الأخير للاقتصاد الوطني الرازح تحت حصار وتهريب واستيراد..
وزير المالية، خلال اجتماعه بـ«نخبتنا» التجارية الوطنية الشهر الماضي، أومأ بسبابته إلى البعض: أنتم مهربون!!.. وبالطبع، فلم يمتنع هؤلاء عن الاستمرار بتصنيف أنفسهم «كنخبة» لها مطالبها ووجهات نظرها حيال صمود الاقتصاد والإدارة الكفؤة والعدالة والحوكمة ونجاعة النظام الضريبي.. وأيضاً: أصول مكافحة التهريب!.
على اعتبارها «شأناً اقتصادياً»، لطالما حظيت مكافحة التهريب بوجهة نظر خاصة بين أوساط «نخبتنا» التجارية، خلال الأشهر الأخيرة، ومع وصول المهربات إلى تخوم بعيدة، ماذا لو استيقظنا غداً -مثلاً- على كارثة استهلاك تلاميذ مدارسنا لبعض السلع المهربة الفاسدة المنتشرة في «بوفيهاتها» الصغيرة..
«صحة الأطفال» ليست «شأناً اقتصادياً»، تجارنا مصرون على إدارة «أذن الطين» لما بين سطور حديث شيخهم، ولذلك لا يزال بعضهم يجادل في التهريب باعتباره «شأناً اقتصادياً» يتوجب بمكافحته الذهاب إلى «أصل المشكلة»، قال أحدهم مؤخراً إن «التهريب سببه منع استيراد بعض المواد.. أو للتهرب من دفع رسوم استيرادها المرتفعة».. ليصل إلى الخاتمة المعهودة: «لا بد من فتح الاستيراد» على مصراعيه.. ولا بد من «تخفيض الرسوم الجمركية «لـ» تخفيض سعر المواد المستوردة «لكي» تستطيع منافسة السلع المهربة»؟!
لنتناول إذاً «أصل المشكلة» الحقيقية كما يطالب تجارنا..
الحديث المملّ السابق، وما يستبطنه من محاولة استدرار مساندة المستهلكين عبر دسّ سموم «التضخم» في دسم «وفرة السلع»، يمكن اختصاره بـ«وصفة حفر وتنزيل» لاستمرار مناشير «التجار» المتلهفة لابتلاع الاقتصاد الوطني ومعه المستهلكون، ذهاباً وإياباً!.
يتشارك التهريب والاستيراد بما يكرسانه من آثار تضخمية عميقة يدفع المستهلكون ثمنها في النهاية، فيما يراكم التجار «المهربون والنظاميون والمختلطون»، حصصاً غير مسبوقة من الأرباح الكلية تتناسب طرداً مع كل قفزة تضخمية.
إذا كانت كتلة المهربات المعلنة إلى سورية من تركيا تحوم حول 2 مليار دولار سنوياً، فهذا يعني أن مهربات بنحو 6 ملايين دولار يومياً تفد إلينا من موانئ تركيا الجافة في مدينة سراقب بريف إدلب، «وهذا خطر أمني» يضاف إلى خطر اقتصادي يكتنف ميزان وارداتنا القابع عند 20 مليون دولار يومياً وفق بيانات 2018، وبإضافة نسبة تهريب محتملة من دول أخرى كلبنان والأردن، فقد يتسلق المبلغ حيطان 30 مليون دولار تخرج يومياً عبر حدودنا؟!
هل هذا اقتصاد خالٍ من «أصل المشكلة» قياساً بميزان صادراتنا «السرّي» الذي لا يبرح عتبة 2 مليون دولار يومياً؟!.. وإذا فرضنا جدلاً أنه كذلك، فكم سيصمد؟.
في الواقع، حان الوقت كي يغادر التجار أطروحاتهم اللطيفة: «دعونا نعمل.. دعونا نستورد.. وإلا فالتهريب»، فبطبيعة الحال، للاستيراد المنفلت، كما التهريب، طريق واحد يمر فوق جسد الإنتاج والليرة الوطنيين، وبمعنى أدق، فكلاهما يمثلان رمق السواد الأعظم من المستهلكين، وقد آن الأوان لأن يفهم التجار بأن «شيخ المستهلكين» الحكومي لم يعد له طاقة للسماح لهم بالتنزه فوق جسد الاقتصاد الوطني والمستهلكين وقدرة الحكومة على الإيفاء بالتزاماتها الأساسية، فقط، لأن تجارنا يتلهفون لاستيراد «الرموش المستعارة والمزلقات المتنوعة» وأشياء أخرى.. ممنوعة من الاستيراد حالياً!.
بالتجربة العملية، ليس لعاقل أن يتوقع اندفاع التجار إلى التوزيع الخيري لأدوية الأمراض المزمنة على عموم محتاجيها، ولا السلع الأساسية حين يفتك الاستيراد المنفلت «أو التهريب» بقدرة الدولة على توفيرها بأسعار ممكنة، ولا له أن يُنتظر منهم توزيع رواتب ملايين العاطلين عن العمل والاستهلاك حين تغلق المنشآت الوطنية أبوابها جراء فحش استيرادهم أو تهريبهم؟!
في الواقع، هم قالوا سلفاً ما قد يفعلونه: بدءاً من تهربهم الجماعي من دفع الضرائب، بل وذهاب بعضهم إلى ابتياع موظفين لهم من لدن المؤسسة الضريبية لترتيب السطو «النخبوي» على الأموال العامة، مروراً بميولهم الجامحة إلى الاحتكار، بما في ذلك حربهم الشعواء لمنع القطاع العام عن شراء الـ«15%» من مستورداتهم من السلع الأساسية، وصولاً إلى «تشردقهم» حتى حدود الاختناق وانقلابهم «أخوة في العمل» إبان الطلب إليهم تسجيل عاملين «اثنين فقط» في التأمينات الاجتماعية؟!..
على التجار الإصغاء جيداً لشيخهم لأنه يتوخى مصلحتنا المشتركة «تجاراً ومستهلكين» على المدى المنظور، وكبداية، قد يجدر بهم تقليص إدمانهم أفكارهم الرديئة ومناشيرهم المسننة، والتخلص من قواميسهم الرخوة التي يستقون منها ومضاتهم حول «أصل المشاكل»، لأن بعضهم جزء من «أمهات المشاكل» التي يعانيها الاقتصاد الوطني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن