قضايا وآراء

فلسطين الأرض والمعنى ما الذي تبقى لنا منها؟

| د. يوسف جاد الحق

حقاً أين نحن الآن من فلسطين وأين هي منا؟ ما الذي تبقى لنا بعد قرن كامل قضينا نصفه الأول في نضال وكفاح وثورات متواصلة، من أجل الاحتفاظ بفلسطين لأهلها ومنع الأعداء الطامعين من الاستيلاء عليها، وأما نصفه الثاني فقد أمضاه الفلسطينيون، ومعهم قلة من إخوانهم المخلصين العرب في قتال ومناجزة، وصمود ومقاومة من أجل تحريرها واستعادتها أرضاً طاهرة ومعنى قدسياً.
عندما وقعت «النكسة» عام 1967 عقب شقيقتها الكبرى «النكبة» عام 1948 تأكد لمن كان في حاجة إلى التأكد، أن أطماع أخطبوط الصهيونية العالمية لا تقف عند ذلك الذي استولت عليه من أرض فلسطين، فهذا لم يكن سوى رأس جسر تنطلق منه إلى تحقيق أهدافها الأبعد مدى والأكثر طموحاً.
لم يكن غريباً إذاً أن يقدم العدو الإسرائيلي، بمعونة ومشاركة من الغرب عسكرياً واقتصادياً ومعنوياً في المحافل الدولية، على احتلال سيناء المصرية والجولان العربية السورية، فضلاً عن البقية الباقية من أرض فلسطين التاريخية عام 1967.
على مدى طويل من الزمن ما انفك العرب عن الإعلان على الملأ أنه «لا تفريط بذرة من تراب فلسطين» وأنهم عاملون على «تحرير فلسطين من البحر إلى النهر» وأن «أهلها عائدون إليها» لا محالة، كحقيقة أزلية لا جدال فيها.
الآن، وقد انقضت سبعة عقود ونيّف على ما حدث عام 1948 وبعده نتساءل: ما الذي تبقى من فلسطين «الوطن – المعنى» و«الأرض» أولاً، وأين أصبحت مسألة «تحريرها» وعودة أهلها إليها ثانياً؟
لكيلا نعمد إلى دفن رؤوسنا في الرمال، فنذهب من ثم إلى تحميل العدو وحده وزر ما حدث، لابد من الإشارة إلى مسؤولينا نحن العرب فلسطينيين وغير فلسطينيين في ذلك. ونحن هنا لا نذكر على المنافحين المخلصين عن فلسطين وشعبها، حلف المقاومة سورية وإيران والمقاومة لبنانية وفلسطينية، أدوارهم الفاعلة وتضحياتهم العظيمة، التي كانوا وما برحوا يبذلونها من أجل فلسطين، والتي بسببها يناصبهم العداء ويشن عليهم الحروب المدمرة، العدو وحلفاؤه وشركاؤه من «روم» وعرب.
عودة إلى تساؤلنا السالف الذكر، ما الذي تبقى لنا اليوم من فلسطين أرضاً ومعنى؟
لقد تقزّمت القضية، وتضاءلت المطالب، وتواضعت الطموحات حيث انحصرت أخيراً في جزئيات صغيرة، وتفاصيل هزيلة ليس من شأنها سوى تمييع المسألة برمتها والتهوين من أمرها، فضلاً عن تضييع الوقت في مفاوضات عبثية مكرورة على مدار الساعة من كل يوم، لم تفضِ إلا إلى مزيد من الإخفاق والخسران المبين، حيث أصبحت أرض الوطن الفلسطيني مجرد نسب مئوية ليس أكثر، إذ تنحصر عملية التفاوض منذ «أوسلو» سيئة الذكر، فيما نسبته 14 بالمئة من الأرض للفلسطينيين و86 بالمئة منها هي الكيان الصهيوني القائم، فيا له من إنجاز! حتى هذه النسبة الضئيلة الباقية زرعت بالمستوطنات كالفطر فلا تكاد تُبقي لأهلها شيئاً يستحق الذكر.
ماذا إذاً أيها السادة عن تلك الـ86 بالمئة: يافا وحيفا واللد والرملة ويبنا وأسدود وغيرها من مدن فلسطين وقراها فضلاً عن قيمتها كوطن له قداسته ومحبته التي من أجلها تبذل الأرواح والدماء فداء؟ هل تخليتم عن المطالبة بها وأقررتم بشرعية اغتصابها، والتسليم بضياعها إلى أبد الآبدين؟
أما من حيث المعنى والرمز فأين أصبحت القضية وشعبها، وقد عمّ الصمت المريب بشأنها وكأنها أصبحت نسياً منسياً.
هل فقدت القدس مكانتها عند العرب والمسلمين؟ ألم تكن القدس قبلتهم الأولى للصلاة؟ أوليست القدس بمسجدها الأقصى، مسرى الرسول محمد عليه السلام إليها من مكة المكرمة، ثم عروجه منها إلى السماوات العلا؟
ألم تكن القدس وبيت لحم والناصرة محور حياة سيدنا عيسى المسيح عليه السلام، حيث ولد ونشأ ورفع إلى السماء، بعد أن سعى بنو إسرائيل إلى صلبه، وفيها كنيسة المهد وكنيسة القيامة؟
هل القدس ومسجدها الأقصى الذي بارك اللـه حوله، «أي الديار الشامية»، بعيدة اليوم عن «التهويد» لتخلو عندئذٍ من أهلها مسيحيين ومسلمين، وأصحاب هاتين الديانتين يشكلون في عالم اليوم ثلثي سكان المعمورة؟ وتأتي حفنة من نفايات البشر «صهاينة إسرائيل ومن وراءهم» ليدمروا معالمها إضافة إلى محو تاريخها وليجعلوا منها عاصمة لما اصطنعوا من «دولة» على أرض سرقوها من أصحابها التاريخيين منذ آلاف السنين؟
في خضم هذه الحرب الضروس «العالمية» الجارية مستهدفة سورية وحلف المقاومة تحديداً بسبب موقفها من فلسطين، توشك فلسطين، «أرضاً ومعنى»، أن تغدو طي النسيان، أو كأنها نسيت تماماً، فلا الإعلام بشبكاته الأخطبوطية يعيرها التفاتاً، ولا المجتمع الدولي يوليها ما هي جديرة به من اهتمام.
هل يحدث هذا مصادفة أم هو محصلة تدبيرٍ واعٍ ومخطط تآمري هادف يعمل على التعتيم على فلسطين، قضية وقيمة ومعنى وأرضاً وشعباً، خدمة للصهيونية العالمية، وترسيخاً للوجود الصهيوني الإسرائيلي القائم؟ يكفي هنا أن نتذكر مهزلة ما أسموه «الربيع العربي» الذي جاء به المدعو برنارد هنري ليفي، اليهودي الصهيوني، والمؤلم أن نرى أن أمثال هؤلاء يحققون نجاحاً مدهشاً في تنفيذ مخططاتهم والوصول إلى أهدافهم لتخريب كل شيء في وطننا العربي والعالم الإسلامي برمته، ولولا موقف المقاومة العظيم لذهبت الأمور إلى أبعد مما وصلت إليه حتى الآن، أما آن أن يتنبه أولئك الذين على عيونهم غشاوة، والضالعون مع العدو في عملية تخريب أوطانهم هم أيضاً؟ ألا يفكر هؤلاء وأؤلئك في مصائر أجيالهم القادمة من أبناء وأحفاد؟ وهل تباع الأوطان بالمناصب الزائلة والثروات الحرام؟
إن مواصلة السير على ذلك النهج الذي سار عليه بعضهم، في أوسلو، وأتباعها أن يدركوا أن نهجهم المتراخي هذا إلى حد التفريط بالمقدسات والمحرمات هو ضرب من خيانة فلسطين القداسة وشعبها العريق.
كما أن عليهم أن يدركوا أن كل ما هو قائم حتى الآن آيل إلى الزوال وأن يوم التحرير الشامل قادم لا محالة وفي وقت غير بعيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن