قضايا وآراء

يالطا جديدة تستكمل شروطها

| عبد المنعم علي عيسى

جمع مؤتمر يالطا في شباط 1945 حلفاء الحرب المنتصرين في محاولة لتقاسم مناطق النفوذ على امتداد العالم، إلا أن هذا الأخير كان هو نفسه الرحم الذي خرجت منه رياح الحرب الباردة من جديد بعد أن كان زعيم الثورة البلشفية في روسيا، فلاديمير لينين قد أطلق ذلك التوصيف في خريف عام 1917، كانت تلك الرياح قد أطلقت العنان لتنافس إيديولوجي سياسي عسكري في ثنائية قطبية حكمت العالم على مدى أربعة عقود ونصف العقد قبيل أن تنهار يالطا تلقائياً بانهيار الاتحاد السوفييتي أواخر عام 1991، ليدخل العالم عصر سطوة أحادية أميركية أنتجت بالضرورة محاولات حثيثة لبناء عالم متعدد الأقطاب كانت كلها متعثرة لكن على الرغم من ذلك كانت تحاول كلها أيضاً استكمال شروط قيامها.
بين الحدث الأخير واليوم حدثت تحولات كبرى أبرزها تململ روسي بدا طامحاً لاستعادة دوره العالمي من جديد، وتضعضع أميركي بدا مدركاً استحالة استمرار سيادته العالمية في ظل عثرات الاقتصاد المأزوم، ثم قلق أوروبي برزت فيه حال فقدان الثقة المتبادلة مع الحليف وراء الأطلسي هذه المرة، ناهيك عن حالة التشظي الكبيرة التي تشهدها أميركا اللاتينية وهي تنذر بالكثير الكثير.
كانت صرخة الاستيقاظ الروسي الأولى قد تمثلت بالحرب الروسية الجيوروجية في آب 2008، بعدها اتخذت موسكو مساراً تصاعدياً في هذا السياق وفيه رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نظيره الأميركي باراك أوباما آنذاك، الذي أخبره أن أوكرانيا قريباً ستكون عضواً مرشحاً في حلف الأطلسي بالقول: إنها سوف تدخله من دون شبه جزيرة القرم، الأمر الذي حصل فعلاً أوائل عام 2014، تلا ذلك قرار التدخل العسكري في سورية أيلول 2015 وبعد أيام منه أعلن بوتين أن الأزمة السورية سوف تلد من رحمها نظاماً عالمياً جديداً.
عشية مؤتمري سوتشي ووارسو المنعقدين يوم الخميس الماضي أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو من على مقربة لا تزيد على 40 ميلاً عن كاليننغراد، الذراع الجيوسياسية الروسية الأمضى في مواجهة أوروبا أن بوتين يسعى إلى تشتيت حلف الناتو وإضعاف الولايات المتحدة وتعطيل الديمقراطيات الغربية، واللافت في هذا التصريح هو أنه صادر عن الخارجية الأميركية التي تتراصف إلى جانب البيت الأبيض في صراع هذا الأخير مع المؤسستين العسكرية والأمنية فيما يخص ترتيب أولويات البلاد، إذ إن من الواضح أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يرى في روسيا عدواً أو خطراً كما يراها البنتاغون، بل شريك ممكن لتطويق الصين، على حين أنه يذهب في تصادمه مع هذا الأخير إلى نهاياته في الموقف من إيران حتى إنه دعا أباطرة البنتاغون والاستخبارات للعودة إلى المدرسة لأنهم لا يرون ما يراه في الخطر الذي تمثله طهران على الولايات المتحدة.
كان يراد لمؤتمر وارسو أن يكون عنواناً لاحتواء إيران، إلا أن الأميركيين لم يستطيعوا الشد بالأوروبيين الذين أصروا على ترك مسافة واضحة من الموقف الأميركي تجاه طهران الأمر الذي تمظهر في إعلان فرنسا وبريطانيا وألمانيا تمسكهم باتفاق فيينا 2015 في أعقاب تفرد ترامب بإلغائه أيار الماضي، وإن كانت تلك الدول قد وافقت على آلية بروكسل التي قامت على أساس القطيعة مع البنك المركزي الإيراني إرضاء لواشنطن أو لضمان عدم إثارتها إلى الحدود القصوى التي لا يسعى إليها الأوروبيون الآن.
هذا الفشل هو الذي استدعى تدوير الزوايا ليصبح العنوان هو «أمن الشرق الأوسط» وفي هذا السياق كانت الروائح التي تفوح من ردهات المؤتمر تشي بمسعى أميركي إلى مقايضة احتواء إيران بتمرير صفقة القرن التي أعلن مهندسها غاريد كوشنر تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية التي ستجري يوم 9 نيسان المقبل في مؤشر يؤكد أن واشنطن لا تراهن على فوز بنيامين نتنياهو فيها أو هي تفضل فوز أحد المرشحين المحتملين بين غانتسن أو موشي يعلون اللذين يعلنان استعداداً أكبر للقبول بتعديلات قد تكون جوهرية في تمرير الصفقة.
في النصف الثاني من اللوحة سعت موسكو قبيل انعقاد مؤتمر سوتشي الذي أرادته مفصلياً في مسار الأزمة السورية إلى تحصين مواقع إقليمية مهمة لها مثل توقيع شركة النفط الروسية عقدها الأخير مع الحكومة اللبنانية في 25 كانون الثاني الماضي وكذا نجاحها في إخراج إعلان موسكو الصادر عن اجتماع للفصائل الفلسطينية كان قد دعا إليه معهد الاستشراق الروسي ما بين 10-12 شباط الجاري، الأمر الذي منح موسكو فرصة الإمساك بورقة مهمة في مواجهة التفرد الأميركي المهيمن على مسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وإن كان ثمة خشية هنا في أن يكون الأداء السياسي للقيادة الفلسطينية لا يعدو كونه حرقصة للأميركيين من شأنها أن تضع القائم بالفعل في وضعية الانتظار لتلقي الغمزة الأميركية الجديدة التي تفترض الواقعية السياسية عندها هرولة باتجاه «الحب الأول الذي يملك 99 بالمئة من أوراق اللعبة وفق تبني تلك القيادة للرؤية الساداتية» التي قادت نحو اتفاق أوسلو.
عكس المؤتمر الصحفي لثالوث سوتشي خلافاً واضحاً حول ملفي إدلب والمنطقة الآمنة على حين تم ترحيل ملف شرق الفرات إلى جولة مقبلة أعلن أنها ستعقد في نيسان المقبل بينما جرى التوافق على الإسراع في تشكيل اللجنة الدستورية كمدخل للحل السياسي للأزمة السورية.
ربما يتبدى هنا لغز محير يبرزه التساؤل عن الأسباب التي حالت دون موسكو والشد نحو اتخاذ قرار حاسم للبدء بعمل عسكري يعيد إدلب إلى السيادة الوطنية في وقت كانت فيه كثير من المؤشرات تقول إنها سوف تفعل، هذا اللغز سرعان ما تكشف قشره ليبان اللب عبر التصريح الذي أدلى به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم السبت الماضي وأعلن فيه أنه لا تراجع عن صفقة الـ «إس 400» الموقعة مع موسكو وأهمية التصريح تتأتى من أنه جاء بعد 24 ساعة على انقضاء المهلة التي أعطاها مسؤولون أميركيون لأنقرة للتراجع عن إبرام تلك الصفقة مقابل عرض بتزويد هذي الأخيرة بمنظومة باتريوت متطورة مع تهديد بإفشال صفقة بيع طائرات إف 35 كانت قد عقدت مؤخراً مع الأتراك في حال جاء رد هؤلاء سلبياً.
في التحليل يمكن القول إن موسكو تعول على الإسفين التركي لنحر جدارات الناتو المتعالية في المحيط الروسي وأي نحر يعادل دخول منظومة صواريخ روسية داخل تلك الجدارات؟! لكن على الرغم من عدم التوافق التام حول إدلب إلا أن ثمة مؤشرات تؤكد أن المرحلة القريبة ستشهد حملة عسكرية قد تكون محدودة في جنوب وغرب إدلب وشمال شرق اللاذقية ضد مواقع لتنظيمات هيئة تحرير الشام وحراس الدين والحزب التركستاني، وهو ما لن تعترض عليه أوروبا التي ضعف موقفها بعد قرار الانسحاب الأميركي في سورية، وهو الأمر الذي يمكن تلمسه في تصريح السفير الفرنسي في روسيا سيلفي بيرمان لوكالة نوفوستي وأعلن فيه أنه تجري حالياً مناقشة سحب القوات الفرنسية من سورية وربما تلوح في الأفق بوادر حوار تركي سوري على مستوى الخبراء الأمنيين لإنضاج تعديلات على اتفاق أضنة 1998.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن