ثقافة وفن

أفاميا مدينة العز والشرف على مر العصور … كثرة القلاع والحصون في سورية دليل على صمود السوريين واستبسالهم في الدفاع عن أرضهم

| المهندس علي المبيض

بدايةً لابد لنا من أن نؤكد أننا حين نستعرض في مقالاتنا الأسبوعية التي نقوم بنشرها الحضارات والممالك التي قامت فوق أرض سورية الطاهرة إنما نحاول أن نستنهض الهمم ونستعرض تاريخنا الحافل وفي شتى المجالات الثقافية والعلمية وفنون العمارة التي مازالت آثارها شاهدةً على شموخ وعظمة هذه الأمة.
واستكمالاً لما بدأناه سابقاً فسنمضي في مقالتنا اليوم رحلتنا في ذاكرة التاريخ من خلال تسليط الضوء على بعض القلاع والحصون التي تغني ذاكرة سورية التاريخية والأثرية ولنستعرض بعض القلاع في محافظة حماة بعد أن تحدثنا في المقالات السابقة عن القلاع والحصون في محافظة طرطوس واللاذقية وقبل ذلك أعطينا لمحةً موجزةً عن قلعة حلب وقلعة دمشق ونجد أنه من الضروري أن نذكر دائماً بأن الغاية التي نرجو أن نصل إليها من خلال نشر هذه المقالات أن ندرك أهمية قراءة التاريخ ونتعرف على مكامن قوته لأنه من وعى التاريخ في صدره فقد أضاف أعماراً إلى عمره ومن وعى التجربة تجنب تكرار الخطأ..

وسنتحدث اليوم عن قلعة المضيق التي تطل على مدينة أفاميا لكن قبل ذلك نجد أنه من الضروري أن نعطي لمحةً بسيطةً عن مدينة أفاميا نفسها والتي تقع على مفترق الطرق بين حلب واللاذقية ودمشق وتتوضع على مرتفع شرق الغاب ويبعد عنه مسافة 1500 م، وهي تتبع لقرية قلعة المضيق ويمكن الوصول إليها عن طريق حماة – السقيلبية – قلعة المضيق – أنشأها في القرن الرابع قبل الميلاد الامبراطور سلوقوس نيكاتور مؤسس الامبراطورية السلوقية على طراز المدن السلوقية وسماها على اسم زوجته الأميرة أباميا ثم حرف الاسم ليصبح أفاميا، وقد تم العثور خلال التنقيبات التي جرت عام 1968م على بعض المكتشفات التي دلت أن أفاميا يعود تاريخها إلى العصور الحجرية القديمة كما تم العثور على بعض اللقى الأثرية التي تعود إلى العصر الحجري الحديث، كانت مدينة أفاميا في العصر الروماني حصناً منيعاً يستوعب أكثر من خمسمئة من الفيلة بالإضافة للجزء الأكبر من الجيش، أحيطت مدينة أفاميا بسور شأنها في ذلك شأن المدن القديمة يضم سبعة أبواب هي باب لاريسا، باب اللاذقية، باب انطاكية، باب قنسرين، باب أسريا، باب تدمر، باب حماة ويبلغ هذا السور طوله نحو 6300 م ولم يكن تصميم المدن في العصر السلوقي عشوائياً بل كان المخطط التنظيمي في تلك المدن يأخذ شكل توزيع شطرنجي تتقاطع معه الشوارع الفرعية مع الشارع الرئيسي مع ملاحظة وجود ساحة عامة تضم أبنية رئيسية مثل المعابد والقصور والمسارح والأسواق التجارية ومن هذا المفهوم فقد روعي أثناء تصميم مدينة أفاميا وجود عدة مساحات عبارة عن جزر مستطيلة موزعة بشكل شطرنجي ناتجة عن تقاطع 16 شارعاً طولاً وعرضاً يخترقها الشارع المستقيم الرئيسي من باب انطاكية في أقصى الشمال إلى باب حماة في الجنوب طوله نحو 1850 م وعرضه 37 م تقريباً بما في ذلك الأروقة الجانبية ويضم على جانبيه أهم المباني التاريخية كالمسرح الواقع في الجهة الغربية من المدينة خارج سور المدينة والحمام الروماني إلى الشرق من الشارع الرئيسي والآغورا ( الميدان العام ) وعدة كنائس بيزنطية من أهمها الكنيسة الكبرى القريبة من المسرح. ويعتبر مسرح أفاميا من أكبر المسارح في العصر الروماني ومن المعتقد أنه يعود للعصر السلوقي وقد دمرت الزلازل التي وقعت في الفترة ما بين 1157 – 1170 م مدينة أفاميا تدميراً كاملاً، أعادت المديرية العامة للآثار والمتاحف بناء العديد من الأعمدة الكورنثية في الشارع المستقيم الرئيسي وتم الكشف على ما يزيد عن خمسة كيلو مترات من أسوار المدينة حيث تعود الأقسام السفلية للأسوار للعصر الهلنستي بينما تعود الأقسام العلوية للعصر الروماني.
خان أفاميا (المتحف) وهو خان أثري يقع في جبل الزاوية على ارتفاع 226 م عن سطح البحر يقع أسفل قلعة المضيق كان يستخدم نزلاً للحجاج والمسافرين وتأوي إليه القوافل التجارية قبل أن تواصل طريقها إلى باقي المناطق في سورية، أنشئ خلال الفترة ما بين 1520 – 1567 م، تبلغ مساحته 7000 م2 وهو بناء ضخم مربع الشكل يبلغ طول ضلعه نحو 83 م، تتوزع على أضلاعه الأربعة قاعات واسعة مبنية من الحجارة الكبيرة وسقفها مكون من قباب نصف اسطوانية ويحمل سقفها عقود حجرية نصف دائرية تحتوي القاعات على مواقد كثيرة تتقدمها مصاطب واسعة كان نزلاء الخان يستخدمونها للاستراحة وللنوم ومدخل الخان واسع يقع في الضلع الشمالي، قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميم الخان وأعادت توظيفه واستثماره ليبقى مثالاً مهماً على العمارة القديمة وليصبح هذا الخان متحفاً يضم عشرات اللوحات من أهم لوحات الفسيفساء والمكتشفات الأثرية التي تم العثور عليها في مدينة أفاميا والمناطق المحيطة بها، ومن أهم المعروضات فيه لوحة فسيفساء سقراط والحكماء التي تعود إلى عام 363 م، وتمثل اللوحة الحكماء السبعة المعروفين في التاريخ الإغريقي كما يضم لوحة الوعل ولوحة الحوريات والأمازونات ولوحات فسيفسائية كثيرة تمثل النباتات والمناظر ويضم المتحف كذلك المكتشفات الأثرية من مدينة أفاميا ولقى أثرية مهمة تعكس تاريخ المنطقة وتدل على الأهمية التاريخية لهذه المدينة.
تعتبر اللوحات الفسيفسائية التي يضمها هذا المتحف من أهم الآثار الفنية الرومانية والبيزنطية وقد أنجزها السوريون بأسلوب متميز وبمواضيع متنوعة ترتبط بشكل أو بآخر بالأساطير القديمة والأحداث الدينية حيث كانت سورية في تلك الفترة غنية بهذا النوع من الفنون، كما يوجد عدة أضرحة مصنوعة من الحجر نقش عليها زخارف نافرة تمثل أكاليل النصر مع ربة النصر وبعض الأسود يعود تاريخها إلى عام 231 م.
قلعة المضيق: وهي قلعة قديمة ولها تاريخ حافل تبعد عن مدينة حماة نحو 40 كم، تقع فوق تل طبيعي شرق سهل الغاب كان مأهولاً منذ الألف الخامس قبل الميلاد ويشرف بشكل مباشر على الغاب كما يطل شرقاً على مدينة أفاميا التاريخية، موقع القلعة إستراتيجي إذ إنها تتوضع على قمة التل وتحيط بها المنخفضات من كل الجهات وتبعد مسافة 500 م عن مدينة أفاميا، فتحها العرب صلحاً مع مدينة أفاميا عام 638 م، استولى عليها الصليبيون عام 1106 م، واستردها نور الدين الزنكي عام 1149م ورممها وجددها وأعاد بناءها بعد أن تعرضت لزلزال قوي عام 1157 م ألحق دماراً كبيراً فيها ومعظم منشآتها تنسب إلى عهده، وفي فترة المماليك استخدمها الظاهر بيبرس عام 1267 م لتكون مقراً لتجميع جيوشه فيها وانطلق منها لاستعادة انطاكية، يبلغ قطر القلعة نحو 250م محاطة بسور شاهق مضلع الشكل وغير منتظم، وقد تأثر طراز البناء في القلعة بأسلوب العمارة العربية بشكل كبير ويظهر ذلك جلياً في الطراز المعماري لأسوار القلعة وأبراجها المربعة الشكل وعقودها، يقع باب القلعة في الجهة الجنوبية وهو على شكل قنطرة وعلى جانبيه برجان كما يوجد في شمال القلعة برج جميل مربع الشكل منقوش عليه كتابات يعود تاريخها لعام 1205 م، والقلعة حالياً مازالت بحالة جيدة.
قلعة الحوايس: وهي قلعة قديمة جداً تقع شمال شرق مدينة حماة وتبعد عنها مسافة 40 كم بالقرب من القرية التي تحمل اسمها وتتوضع القلعة فوق قمة أحد المرتفعات وتطل على سهل ضيق يقع بين التلال البازلتية حيث تتحكم بالممرات بين هذه الهضاب التي تؤدي إلى المناطق الشمالية الخصبة وتربطها مع المناطق الجنوبية التي كانت غنية بالمياه، القلعة حالياً متهدمة ولم يبق منها إلا آثار وبقايا السور المتهدم إضافة إلى بئر ماء ينزل إليه بدرج لولبي عمقه نحو 150 م، ومع ذلك تمكننا بقايا هذه الأطلال من مقارنتها بكل من قلعتي الرُحيّة والرُبا من حيث الأسلوب المعماري المتبع في هذه القلاع، ما يدل على أنها تعود إلى الفترة الهلنستية وربما كانت أقدم من هذا بكثير أسوةً بغيرها من قلاع المنطقة وأن ما بقي من أطلال القلعة يوضح أنها كانت تتمتع بتحصينات كبيرة ولها تحصين خارجي مبني من الحجر البازلتي الطبيعي وبسماكة كبيرة تصل إلى متر ونصف والذي تم تشكيله بشكل بسيط ورصفه بجدار داعم على شكل شبه دائري وقد زالت معظم أجزاء هذا الجدار حالياً، وتأخذ القلعة شكلاً شبه دائري تقريباً ولها مدخل من الجهة الغربية وشهدت القلعة أحداثاً تاريخيةً مهمة في مختلف العصور التي مرت على المنطقة ونستدل على ذلك من خلال التحصينات والمنعة التي تدل عليها الآثار المتبقية منها.
والخلاصة وبالعودة إلى موضوعنا الرئيس الذي نتحدث خلاله عن القلاع والحصون إنما نؤكد على نقطة مهمة جداً وهي أن كثرة وجود القلاع والحصون في سورية إنما يبرز الجانب الدفاعي في تكوين السوريين وطبيعتهم المسالمة التي تقترن بالتشبث بالأرض والاستبسال في الدفاع عنها وبعدهم عن الحروب الهجومية والعدوانية والاستيلاء على أراضي الغير وأن الحروب التي كان السوريون يخوضونها ومنذ القدم إنما تندرج ضمن الحروب الدفاعية وليست العدائية.
وللحديث بقية..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن