قضايا وآراء

الاستيلاء على فلسطين

| د. يوسف جاد الحق

بداية لا بد من الاعتراف بأنه وعلى الرغم من وعد بلفور ثم مشروع تقسيم فلسطين الذي صدر عن «هيئة الأمم المتحدة» المتواطئة مع «اليهودية العالمية» في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1947، ما كان للاستيلاء على فلسطين أن يتحقق ليصبح أمراً واقعاً لولا أن:
1ـ تقاعس العرب، في ذلك الوقت، عن التصدي لتلك المؤامرة الشرسة التي كانت بدايتها المدبرة في دهاليز مطابخ التآمر «السري في أوائل القرن الماضي، من وعد بلفور إلى سايكس بيكو إلى الانتداب البريطاني»، بل إن العرب لم يأخذوا المسألة على محمل الجد، ولم يولوها من اهتمامهم وجهدهم ما هي جديرة به، ولاسيما أنها سوف تمس مصالحهم وبلادهم جميعاً في قادم الأيام. من ثم فقد تركوا الشعب الفلسطيني الأعزل، بسبب وجود الانتداب البريطاني، ومن قبله الحكم العثماني، وحده يواجه المؤامرة الأخطر والأدهى في عصرنا، وسائر العصور المنصرمة، على مدى التاريخ البشري كله، كانت المؤامرة أكبر من إمكاناته على التصدي لها، وعلى الرغم من ذلك لم يتوان عن الثورة عليها والوقوف في وجهها باذلاً من التضحيات ما يفوق الاحتمال.
2ـ النشاط اليهودي الدولي من الآيباك والماسونية والروتاري ومشتقاتها، الذي تجلى في حشد سائر القوى الداعمة له، وما أكثرها، لتنفيذ المخطط الصهيوني الذي لم يكن استهدافه لفلسطين سوى البداية، ثم الانطلاق، بعد ذلك، إلى الانتشار في المنطقة لتحقيق الأطماع اليهودية، والرأسمالية شريكتها التي لا حدود لجشعها وبربريتها.
نص قرار التقسيم الجائر على حقوق الإنسان، أفراداً وشعوباً على ما يلي:
«تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وربط الدولتين المقترحتين باتجاه اقتصادي، أما القدس فتخضع لنظام دولي».
حتى هذا النص على فداحة إجحافه وإجرامه لم ينفذ بحذافيره حيث مكَّن اليهود من تنفيذ الشطر الخاص بهم فأقاموا ما سمي «دولة إسرائيل» في حين أغفل كل ما يخص الشعب الفلسطيني، وها هي سبعة عقود تمر من دون أن تكون للفلسطينيين دولة حسب منطوق القرار نفسه. ولم يحدث ذلك، بطبيعة الحال بمحض المصادفات، وإنما كان بحكم التدبير المحكم المتواطئ لدى دول بعينها مع اليهودية العالمية، مثل بريطانيا وفرنسا وأميركا وغيرها، وما كان من تلك الهيئة ذاتها إلا أن غضت الطرف عن كل ذلك، وسائر ما تلاه من خروقات وجرائم يهودية في حق الشعب الفلسطيني، الذي لم يجد كثيراً من العرب إخوانه في العروبة سنداً له من القوة ما يردع الأعداء عن المضي في ممارساتهم واعتداءاتهم المادية والمعنوية، ليس في حق الشعب الفلسطيني وحده، وإنما فيما يخصهم جميعاً، شاؤوا أم أبوا، فهو ما حدث على أرض الواقع بالفعل.
هذا الضعف في الموقف العربي أسفر في نهاية المطاف عن كل ما جرى في المنطقة، على مدى سبعة عقود من الزمن، وهو نفسه الذي يجري اليوم تحت عنوان «الربيع العربي» الأكذوبة التي جاءهم بها يهودي صهيوني آخر هو المدعو برنار هنري ليفي، وسبقه إلى فكرته برنار لويس وآخرون.
لم ير الفلسطينيون يوماً أن فلسطين لهم دون غيرهم، إنما هي أرض عربية خسارتها لا تعني الفلسطينيين وحدهم، وينطبق هذا على دول العالم الإسلامي أيضاً. وذلك ما أثبتته الأيام وهو نفسه موقف سورية، الدولة والشعب، التي ترى أن فلسطين هي الجزء الجنوبي من سورية، بلاد الشام، فيما يتشبث العرب الآخرون بالقطرية البغيضة، وكأن كلاً منهم يقول: «يا رب أسألك نفسي، أو من بعدي الطوفان»! من هنا ظهرت في الآونة الأخيرة مقولة «بلدي أولاً» أما بقية العرب، فلا يهم!
ولئن دلَّ هذا على شيء فإنما يدل على قصر في النظر عجيب غريب، إذ إن العدو واحد والمصير واحد، وحكاية، «إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض» تعلمناها أطفالاً، في المدارس الابتدائية، وغدت اليوم من المنسيات لدى بعض مثقفي العرب وسياسييهم.
لقد لعبت كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية الدور الرئيسي والأول فيما آلت إليه القضية الفلسطينية من تقسيم للأرض وتشريد للشعب، وما تبع ذلك من أحداث ووقائع مأساوية، وتداعيات قلبت أمور المنطقة كلها رأساً على عقب، وتركت آثارها على الشعب العربي في سائر أقطاره على الصعد كافة، وليس ما يجري على أديمها اليوم سوى واحد من تجلياتها.
دسائس ومؤامرات ودولارات، ذلك كله وظّفته دول «عظمى»! تسمي نفسها «دولاً حرة»، بل أيضاً داعية رائدة «للحرية» وحامية «الديمقراطية» ومنافحة عن «حقوق الإنسان»، و«العدالة»، إلى آخر ما هنالك من كلمات إنشائية لا نصيب لها من التطبيق على أرض الواقع، إن لم يكن نقيضها تماماً هو القائم والسائد، بحيث إن تلك الادعاءات، ليست سوى غطاء للجرائم والممارسات التي يتولى كبرْها ووزرها أولئك أنفسهم، حتى أمسى العالم في ظل هيمنة هذه القوى غابة تأنف الوحوش نفسها العيش فيها، وإلاّ فليفسر لنا هؤلاء كيف يحدث أن يُخرج شعب من أرضه الموروثة عن آبائه وأجداده منذ آلاف السنين، ليهيم على وجهه مشرداً في سائر أرجاء الأرض في ظل «حضارة القرن العشرين»، عصر التقدم والمدنية على الطريقتين الأميركية واليهودية، لكي تحل محله عصابات ومافيات وقطاع طرق تستوطن بلاده، وتأكل خيراتها ظلماً وعدواناً.
بلاد برمتها يستولى عليها بكل ما فيها «مجاناً»، بل أيضاً يلاحق أهلها بالقتل اليومي منذ ذلك الحين، ولا يجرؤ أحد، حتى على مجرد الاستنكار أو رفع الصوت ولو بكلام لا يفيد الضحايا، إنها «شريعة الغاب» ومنطق القوة ولكن «من يجرؤ على الكلام» حسب بول فندلي؟
على أي حال، لابدّ من التأكيد أنه ما من حديث في السياسة، أو الجدل البيزنطي الذي اعتُمد على مدى سبعة عقود، من دون طائل، يمكن أن يعيد للشعب الفلسطيني شيئاً من حقوقه المهدرة وأرضه المسروقة غير القوة.
القوة وحدها هي اللغة التي لا يفهم العدو غيرها، ولقد أثبتت المقاومة أنها هي السبيل الوحيد إلى هزيمة العدو، وتحرير الأرض الفلسطينية كاملة بحدودها التاريخية، وأي كلام غير هذا فهو مضيعة للوقت، وتضليل مقصود وصرف للأنظار عن توخي السبيل الأوحد والأجدى لحسم الأمور لاستعادة حقوقنا كاملة قبل فوات الأوان؛ فالظروف الراهنة إقليمياً والمتغيرات الدولية الجارية على قدم وساق هي مصلحتنا أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن