قضايا وآراء

رُب وقـاحــة نـافعـــة

| أحمد ضيف الله

بعد أن أكد رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في الـ9 من كانون الأول 2017 طي ثلاثة أعوام من المعارك بالانتصار الكبير على تنظيم داعش الإرهابي، معلناً «انتهاء الحرب على داعش». أعلن رئيس اللجنة الأمنية في المجلس النيابي السابق في بيان له في الـ13 من شهر شباط 2018، أنه «بعد القضاء على عصابات داعش الإرهابية فإننا اليوم لسنا بحاجة إلى وجود قوات أجنبية وهبوط وإقلاع طائرات أميركية من دون ضوابط وسيطرة عراقية كاملة على الأجواء»، مؤكداً أن «لجنة الأمن والدفاع النيابية ترفض أي جهة أجنبية تحاول فرض وجودها على الأراضي العراقية». وفي الأول من آذار 2018 قرر المجلس النيابي السابق، أنه «بعد إعلان النصر النهائي على المجاميع الإرهابية، ندعو الحكومة إلى وضع جدول زمني لمغادرة القوات الأجنبية الأراضي العراقية».
إلا أن وقائع الأحداث السياسية التي مر بها العراق حالت دون حسم موضوع القوات الأميركية والأجنبية في العراق، إذ أدت الخلافات بشأن صحة نتائج الانتخابات النيابية الرابعة التي جرت في الـ12 من أيار 2018 إلى تأخر تصديق المحكمة الاتحادية العليا على نتائجها لغاية الـ19 من آب 2018، ومن ثم تسبب الجدل بشأن الكتلة النيابية الكبرى إلى تأخر انعقاد جلسة انتخاب رئيس المجلس النيابي حتى الـ15 من أيلول 2018، على حين لا يزال تعثر إنهاء التشكيلة الحكومية برئاسة رئيس الوزراء الجديد عادل عبد المهدي مستمراً من دون اكتمالها حتى تاريخه.
وما من شك أن قيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الـ26 من كانون الأول 2018، بدخول العراق خلسة لتفقد قواته في قاعدة (عين الأسد) في محافظة الأنبار من دون إعلام الحكومة العراقية بها، أعاد الدفع مجدداً بموضوع القوات الأميركية والأجنبية في العراق إلى ساحات التداول، حيث مثلت وقاحة ترامب هذه انتهاكاً صارخاً لسيادة بلد مستقل بتجاوزه كل الأعراف والأصول الدبلوماسية، عاكسة مدى الاستفزاز والاستهتار والتعامل الاستعلائي مع العراق وحكومته. عزز ذلك لاحقاً السلوك القبيح للقوات الأميركية في انتهاك السيادة الوطنية العراقية. ففي الـ4 من كانون الثاني 2019، ووسط اندهاش البغداديين، تجول نائب قائد عمليات التحالف الدولي في العراق الجنرال أوستن رينفورث بصحبة عناصر من قواته ومرافقة جليل الربيعي قائد عمليات بغداد في شارع المتنبي، شارع الكتب والثقافة الشهير وسط بغداد، في أول ظهور علني وغريب للقوات الأميركية في بغداد منذ سنوات، حيث أثار ذلك جدلاً حاداً في الأوساط السياسية والشعبية حول المغزى والمعنى من ذلك، وهو ما دفع متظاهرين بعد ساعات من الجولة بإحراق العلم الأميركي خلال وقفة احتجاجية في ساحة التحرير وسط بغداد، مطالبين بمنع تكرار نزول القوات الأميركية إلى الشارع مجدداً.
وفي الـ15 من الشهر ذاته، قامت قوات أميركية راجلة بإجراء استطلاع ميداني لقوات الحشد الشعبي المرابطة على الحدود السورية العراقية، موجهة أسئلة إلى الشرطة الحدودية والجيش عن عدد المواقع القتالية على الحدود وكمية الذخائر ونوع الأسلحة وعدد الأفراد في كل موقع، ما دفع قيادة عمليات الأنبار للحشد بمنع هذه القوات من متابعة استطلاعها والاقتراب من قاطع الحشد الشعبي، ما اضطرها إلى العودة إلى قاعدتها في (بئر المراسمة)، حيث اعتبر قائد عمليات الحشد الشعبي في محافظة الأنبار بحسب بيان له، أن «تلك المعلومات غاية في الخطورة وتكشف سرية القوات المرابطة ما يجعل استهدافها سهلاً».
وعلى حين فوجئ أهالي مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار في الـ26 من الشهر ذاته، بتجوال استعراضي استفزازي لقوات أميركية مسلحة في أحياء الرسالة والشهداء وجبيل ونزال للمدينة. اعترضت قوات الحشد الشعبي في الأول من شباط الحالي قوة أميركية راجلة، ومنعتها من إجراء جولة ميدانية لها في مناطق قريبة من القصور الرئاسية في مدينة الموصل، بقطع الطريق عليها وتحذيرها بصورة مباشرة من مواصلة التقدم في الجولة، ما اضطرها إلى الانسحاب بسرعة وسط غطاء جوي تحسباً لأي عمل ضدها.
إن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حوار مع قناة CBS الأميركية في الـ3 من شباط الجاري، أن «لدينا قاعدة عسكرية رائعة وغالية التكلفة في العراق، وهي مناسبة جداً لمراقبة الوضع في جميع أجزاء منطقة الشرق الأوسط المضطربة، وهذا أفضل من الانسحاب»، وهي قاعدة (عين الأسد)، موضحاً «أريد أن أراقب إيران»، أعاد فتح ملف وجود القوات الأميركية في العراق، حيث سارعت أغلب القوى السياسية في بيانات لها إلى اعتبار أن «الحديث عن قواعد أميركية وعن استخدامها لمواجهة دول جوار يتعارض مع الدستور العراقي والاتفاقيات بين العراق والولايات المتحدة، التي تم التوافق عليها في كل مراحل المشاركة الأميركية ضمن التحالف الدولي لمقاتلة داعش، حيث حرص العراق على أن تكون المشاركة الأميركية ضمن قوات التحالف الدولي وفقاً للسيادة العراقية لأغراض الدعم اللوجستي والاستخباري والتدريب العسكري»، مشيرة إلى أن «تصريحات ترامب الأخيرة تكشف عن حقيقة المشروع الأميركي في استهداف دول الجوار»، مؤكدة أن الوجود الأميركي «ليس لمساعدة العراق، وإنما لتأمين الكيان الإسرائيلي، واستعمال الأراضي العراقية منصة للاعتداء على دول الجوار»، رافضة «وبشدة أن يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، أو منطلقاً لمراقبة دول الجوار أو استفزازها أو التعدي عليها».
وعلى حين استغرب رئيس الجمهورية برهم صالح خلال (ملتقى الرافدين الدولي) المنعقد في بغداد في الـ5 من شباط الحالي تصريحات الرئيس الأميركي، مؤكداً أن «ترامب لم يطلب موافقة بغداد لإبقاء قوات بلاده في العراق لمراقبة إيران»، وأنه «ليس من ضمن الاتفاقات وجود القوات الأميركية لمراقبة نشاطات إيران».
قال رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي خلال مؤتمره الأسبوعي في الـ5 من شباط الحالي: «نختلف مع الجانب الأميركي بشأن التصريحات الأخيرة ونحن نرفض هذا المفهوم وهذه التصريحات غير مفيدة ويجب التراجع عنها».
بالمقابل، قال عادل عبد المهدي في بيان له في الـ6 من شباط الجاري، عُقب استقباله محافظ البنك المركزي الإیراني عبد الناصر همتي: إن «شعب العراق عانى الحصار ويدرك الضرر الذي يلحق بالشعوب من جرائه، ولن يكون العراق جزءاً من منظومة العقوبات ضد إيران وأي شعب آخر». وكان عادل عبد المهدي قد شدد في الـ11 من كانون لأول 2018، على أن العراق ليس جزءاً من العقوبات الأميركية المفروضة على إيران.
قبل تصريح الرئيس ترامب الأخير، وفي الـ24 من كانون الثاني 2019 كانت قد تقدمت كتلة تحالف الإصلاح والإعمار النيابية من خلال بيان لها بمقترح مشروع قانون لإنهاء العمل بالاتفاقية الأمنية المعروفة باسم (صوفا)، وإلغاء القسم الثالث من اتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعتين مع الولايات المتحدة الأميركية، حيث «تم التأكيد في مواد مقترح القانون هذا إنهاء الوجود الأميركي والأجنبي في العراق ومنع أي قواعد عسكرية في العراق وكذلك إنهاء وجود المدربين والمستشارين العسكريين الأميركيين والأجانب في العراق خلال سنة واحدة من تاريخ إقرار هذا القانون». ومن المؤكد أنه في الثالث من آذار المقبل، سيعاود المجلس النيابي بدء أعمال الفصل التشريعي الثاني، بعد انتهاء عطلته الحالية، وسيشهد مشروع القانون اللمسات الأخيرة عليه، بعدها يُقدم إلى رئاسة مجلس النواب لإدراجه على جدول أعماله لمناقشته ثم إقراره.
إن الضبابية وعدم الشفافية سمتان بارزتان لوجود القوات الأميركية في العراق، إذ ليست هناك معلومات دقيقة أو أكيدة عن عديد هذه القوات، ولا عن أصنافها واختصاصاتها، أو أدوارها الحقيقية وواجباتها. فهل هي قوات استشارية أم للدعم اللوجستي أم غيرها؟ وأين أماكن وجودها بشكل دقيق وصريح. فإن كانت للتدريب فإن أماكن وجودها في الكليات العسكرية أو مواقع التدريب الرسمية للقوات العراقية، وليس على الحدود أو ضمن قواعد عسكرية مستفزة داخل المدن. وإن كانت لمواجهة الخطر العسكري الذي يشكله داعش، فإن هذا الخطر قد زال. وفي هذه الحالة، ما الأرضية القانونية لبقاء هذه القوات الآن؟ وما الدوافع الخفية وراء سحب القوات الأميركية من سورية، وفي الوقت ذاته تعزيز وجودها ضمن قاعدة (عين الأسد) التي يبدو أن مسرح عملياتها الأمني سيمتد إلى مناطق غربي العراق للإشراف على طريقي بغداد عمان، وبغداد دمشق الدوليين.
إن التصريحات الوقحة للرئيس الأميركي دونالد ترامب والسلوك الوقح لقواته في العراق سيسرع في عرض مشروع القانون على المجلس النيابي، فُرب وقاحة نافعة في إقرار القانون وتمريره. وليحيا الغباء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن