ثقافة وفن

أربعون يوماً على رحيل الأمير الدمشقي…«نموت وتحيا بلادنا سورية»

 شمس الدين العجلاني : 

أربعون يوماً أقف يا ولدي شامخاً رافع الرأس أتقبل التهاني من أهل الشام بالعريس الدمشقي الهوى والنسب..
أربعون يوماً يا ولدي وكل صبايا الشام وشبابها ورجالها وأطفالها يؤمون بيتك معزين.. مهنئين.. فرحين.. حزينين..
أربعون يوماً يا ولدي والوردة الدمشقية تذرف الدمع والحزن على فراقك..
أربعون يوماً يا ولدي والياسمين يجهش بالبكاء…
ما من وردة إلا انحنت أمام عظمة رحيلك..
ما من ورقة وقلم وكاميرا إلا أمطرت حزناً وألماً على رحيلك..
يا ولدي كل من بارك لي بقدومك يوم 8 آذار عام 1981 م، جاءني يبارك لي، حين زفتك الشام وأهلها يوم 27 تموز عام 2015 م بارتقائك شهيداً للشام..

العاشق المتيم
آه يا ولدي ما أروع أن تكون صاحب حكاية عشق لها بداية وليس لها نهاية.. حكاية عشق ابتدأت من حي العمارة إلى ضفاف بردى وسفح قاسيون مروراً بكل أزقة وحارات وأحياء دمشق العتيقة والحديثة..
آه يا ولدي ما أروع أن يتعمد الإنسان بمياه بردى، ويزف على أهزوجة «زينوا المرجة» و«زغاليط» نساء الشام، ويكون الشيخ رسلان وابن عربي شاهدين على زفافك إلى السماء من كنيسة المريمية وحنانيا والقصاع وباب توما.. ومن جامع العثمان والشعلان وأبو رمانة والعمارة.. إلى رحاب رب كريم عظيم..
ما أروع هدير صوتك يا ثائر وأنت تصعد للسماء مودعاً أهل الشام: «خُلقنا لنبتسم، صباحكم مشرق يا سادة».. ولكن يا ولدي منذ تلك اللحظة لم يعد يشرق على أبيك صباح إلا والحزن والدمع معه، أصبح من بعدك الحزن دولتي والبكاء عاصمــتي.. ودموعي أمطرت ولم تجف بعدك، وصديقي الوحيد اليوم هو الحزن، كم مؤلم أن يدمن الإنسان الحزن والدمع…
آه يا ثائر لو رأيت عيني أبيك فلن تعرفني وترى الجرح فيها صاح..
يا ولدي كل منا عشق، ولكن عشقك كان الأبهى والأقدس، كنتَ كلما أردت ذكر الحبيبة تتوضأ بمياه بردى خمس مرات، ودفعت مهر الحبيبة وحدك ولم تطلب كما اعتدت مساعدتي، لأنك تعلم أن مهر « ليل حبيبة» غال قد يعجزني، وهذه هي المرة الوحيدة التي لم تأخذ رأيي بمهرك..
أيها العاشق الدمشقي الوسيم، جعلت دمعة الحزن تسكن في مقلتي، وجعلت النهاية تنازع البداية، أبوح الآن لك أنني قد أبحرت في ليل من الأحزان يضنيني، وعالم مثقل النغمات يشقيني، فهل سأخرج من ليلي وحزني، أم البكاء والشقاء هو مشهد كتبته لي بدمك الطاهر وبسمتك وضحكتك المقاومة: «ابتسموا في هذه الحَرب يا سادة.. فالضحكات مُقاومة»، والبكاء رحمة: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللـه فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللـه مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) – حديث شريف.
العشق والشوق هما صفة الثائر ويقول قائل: «الفارق بين الشوق والعشق، إذ يقال للعطشان الذي يسعى للوصول إلى عين الماء: أنه مشتاق للماء، وعندما يصل إلى الماء ويأخذ منه ويحتفظ به يقال له عاشق الماء، فالشوق قبل الوصول والعشق بعد الوصول» وولدي ثائر سلطان العاشقين، عشق وطنه ومسقط رأسه، وقاده الشوق لرب الأكوان، فلامست روحه السموات..
هل قرأ ولدي ثائر الفيلسوف الصوفي ابن الرومي حين قال: « العشق هو الحنين إلى الأصل، وهو الذي يخلّص الإنسان من العيوب. ويرتبط العشق بإدراك الجمال، والحياة بكل مظاهرها تعبّر عن تجليات العشق، وثمرة العشق تتجلّى في مواهب تفتح المواهب في نفس العاشق. والتجاذب بين العاشق والمعشوق يخلق حركة نحو الكمال».
أم قرأ شيخ مشايخ دمشق ابن عربي حين قال: «الحب لا يقبل الاشتراك، فلا يصح أن يحبّ المحب اثنين أصلاً، لأن القلب لا يسعهما…»، ويشير ابن عربي إلى أن الحب، إذا ما بلغ حدَّ الاستنارة، جعلَ المُحِبَّ يتلاشى في محبوبه..
وثائر تخلى عن كل شيء، وعشق وأحب أجمل صبية في الأكوان ودفع مهرها وحده، فكانت دمشق معشوقته، وكان دمه الطاهر مهرها.. و«الحب ذوقٌ ولا تُدرى حقيقتهُ / أليس ذا عجـب والله والله – ابن عربي».

أم الشهيد
أن تبكي الأم لحظة أو لحظات، أن تحزن الأم يوماً أو عده أيام وأن.. وأن.. فكل ذلك طبيعي وهو من سنّة الحياة..
ولكن أن تفقد ابنها البكر بين رمشة عين وانتباهتها وهو بعمر الورد والفل، وذو قربى ونسب مع الياسمين وهامته من شموخ قاسيون، تربى في كتاتيب ابن عربي، وخرج بالعراضة الشامية، ونادى يا شيخ رسلان يا حامي البر والشام، وهو من بيت علم ودين وسياسة في جده قال الفرزدق:
هَذَا الذي ‌تَعْـرِفُ البَطْـحَاءُ وَطْـأَتَـهُ
وَالبَـيْـتُ يَعْـرِفُـهُ وَالحِـلُّ وَالحَـرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللـه كُلِّهِمُ
هَذَا التَّقِي‌ُّ النَّقِي‌ُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
هَذَا ابْنُ سَيِّدَةِ النِّسْوَانِ فَاطِمَةٍ
وَابْنُ الوَصِيِّ الَّذِي ‌في ‌سَيْفِهِ نِقَمُ
فهذا ليس حدثاً عادياً.. ليس استشهادك يا ولدي حدثاً عادياً، فأنت أيقونة دمشقية مقاومة ترسم الكلمات بالصورة، وتكتب بالصورة الكلمات، أنت مؤلف ملحمة جديدة عصرية حضارية في مسيرة الإعلام الحربي، لا يوجد سوري لا يحفظ كلماتك أو يجهل من الثائر، لأن كلماتك مجبولة بالتراب، بالخبز، بالأشجار، بالشقاء، بالحزن، بالفرح، بالنصر، بيوميات الناس وأهل المدن والقرى بالحالمين بيوم الفرج الآتي والنصر الآتي.
أن تفقد الأم ابنها البكر ولم يرتوِ بعد من حليب صدرها.. يا اللـه على حكمتك وقدرك.. إنها الطامة الكبرى، التي سرقت النوم، الهدوء، الليل، النهار، صباحات الياسمين، مساء القمر، غروب الشمس من عيون أم الشهيد…
ارفعي يديك إلى الله يا أم الشهيد وناجي اللـه تعالى بأسمائه الحسنى واطلبي الصبر والنسيان، ألم يقل اللـه تعالى في القرآن الكريم (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180».
ارفعي يديك إلى الله يا أم الشهيد وناجي رباً رؤوفاً جبّاراً: اللهم إني أسألك الرضا بالقضاء والقدر وبرد العيش بعد الموت… اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء ونزل الشهداء وعيش السعداء.. اللهم إني آمنت بقضائك وقدرك.. فامنحني النسيان.. «زلغطي يا أم الشهيد فشهيدك اللـه تعالى ورسوله «ص» وملائكته يشهدون له بالجنة، والمغفرة بإذنه.
«زلغطي» يا أم الشهيد فشهيدك: «يشهد بدمه أنه من الصادقين، فكما أن الشهود في توثيق الحقوق يُثبتون ما كُتِبَ على الشهادةِ بتوقيعٍ خاصٍ بهم؛ أو حتى ببصمتهم؛ فإن الشهيد يوقع على صدقه مع اللـه بدمه، فدمه شهيدٌ على حبه لربه، ودلالةُ إيثارهِ ما عند اللـه على ما عنده الإمام النووي».

هذه الحرب يا سادة
يا ولدي صدقت حين قلت: «هذه الحرب يا سادة أضحت كل حياتنا منذ زمن لم يعد يعنيني إلا هي بكل تفاصيلها..» وهذه الحرب يا ولدي تحمل بين ثناياها انتصار شعب أبي آمن بالله والوطن ونذر الغالي والنفيس في سبيل صون وحماية تراب الوطن، وأنت يا ولدي واحد من آلاف الشهداء الذين قدموا دمهم الطاهر في سبيل البلد، أنت يا ولدي من انتسب لمؤسسة «الدفاع الوطني» اللـه ما أروع أن يختار الإنسان في هذا الزمن الكافر، الغاضب، زمن الأعراب، العربان، اللصوص، الحرامية.. ما أروع أن يختار الدفاع الوطني… يا ولدي، الشهداء هم أمراء أهل الجنة، لن يختار اللـه سوى أمير سار على خُطا التربية التي يرضاها اللـه حتى يختاره ليجاوِر رسوله.
شهادتك يا ولدي جاءت تأكيداً على بطولتك وانتمائك للدفاع عن الوطن.. يا ولدي ستبقى في قلوبنا جميعاً رمزاً شامخاً للفتى الدمشقي الذي انتصر للوطن..
يا ولدي بالحب فقط ستحيا، وستحيا بلادنا بالحب.. ونردد دائماً معك: « نموت وتحيا بلادنا سورية».
ولم أزل يا ولدي أقف شامخاً رافعاً الرأس أتقبل التهاني من أهل الشام بالعريس الدمشقي الهوى والنسب.. و«إن الْعَيْنَ لتَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ ليَحْزَنُ، ولا نَقُولُ إلا مَا يُرضي ربَّنا، وَإِنَّا على فِرَاقِكَ لَمَحْزُونُونَ».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن