ثقافة وفن

مسار الشمال.. الآخرية الفاعلة والذات المستلبة في رحلة ابن فضلان…دراسة تحقق في اعتداء «مايكل كرايتون» على موثوقيّة رسالة ابن فضلان

عامر فؤاد عامر : 
تقدم هذه الدراسة قراءة جديدة لنص رحلي إشكالي، أثار جدلاً واسعاً، وتضاربت حوله آراء النقاد، وانقسموا فريقين: أحدهما مصدّق مثبت، والآخر مكذّب نافٍ، وهو «رسالة ابن فضلان» التي أعاد تحقيقها «حيدر محمد غيبة» عام 1994، مضيفاً إليها ترجمته لرواية «أكلة الموتى» الأميركيّة وتحاول الدراسة إثبات بطلان نسبة نص «غيبة» إلى الرحالة «ابن فضلان»، من خلال إرجاع نص «ابن فضلان» إلى سياقه التاريخي، وتبيان حقيقة الرواية الأميركيّة التي ترجمها «غيبة»، وفضح أطروحة مؤلفها «مايكل كرايتون» التي تحقق انهزام الحضارة العربية – الإسلامية أمام حضارة الفايكنج. ومن خلال رصد تحولات ذات «ابن فضلان» المستلبة في النص المترجم عن الرواية الأميركيّة.

الدافع الموضوعي
الكتاب صادر عن اتحاد الكتاب العرب ضمن سلسلة الدراسات (2) 2014 للدكتورة «رؤى حسين قدّاح» ومما جاء في مقدمة الدراسة: «… إن شكّنا في أصالة نص «غيبة» كان الدافع الرئيس الكامن وراء اختيارنا هذا النص موضوعاً للدرس، بغية إثبات بطلان نسبته إلى ابن فضلان من خلال دراسة مراحل استلاب ذات ابن فضلان، الممثل السياسي والديني للدولة العباسيّة. لكنّا أدركنا أن اقتصارنا على دراسة تحولات ذات ابن فضلان لإثبات بطلان نسبة نص «غيبة» إليه، دون الاستناد إلى وثائق تدعم تلك الدراسة سيؤدي إلى الحكم عليها بأنها مجرد قراءة ضمن قراءات كثيرة تمحورت حول هذا النص…».

فلسفة السياسة بين الإسلام وأوروبا
ناقش مدخل الدراسة عدّة نقاط مهمّة: «الذات، والآخر في الفكر الفلسفي الأوروبي وفي الهويّة الأوروبيّة في الفلسفة السياسيّة الإغريقيّة، وفي نقطة أخيرة هي الاستلاب وتعدد استعمالاته». والمبحث الأوّل من الدراسة جاء تحت عنوان الآخرية بين أوروبا القروسطيّة والإسلام، والذي بحث في 3 نقاط هي على التوالي: ثنائيّة (أوروبا القروسطيّة، الإسلام) بين الفرض والتفكيك والراهنيّة، وأوروبا القروسطيّة تصنع آخرها العدو «الإسلام»، والآخر «الغربي» وتمثيلاته في مدوّنات بؤر الاحتكاك في الأدب الجغرافي العربي: الدولة البيزنطيّة – سواحل بلاد الشام أثناء الحروب الصليبيّة – الأندلس. ومما جاء عن الحروب الصليبيّة في هذا المبحث، وعن الصورة التي كان المسلم في الشرق يلصقها بالأوروبي «الصليبي» واحتقاره، واعتباره أدنى من المنافسة، ما يلي: «عاد الأوروبي الصليبي إلى أوروبا بصورة جديدة عن الشرق المسلم أكثر حدّة وتطرفاً وتنميطاً، ومعرفة عميقة اشتغل عليها طوال مدّة الاحتكاك القسري، ومعارف مشرقيّة ظهر أثرها في مجال الحياة الأوروبيّة، ما يؤكد أن الأوروبي عاش في أثناء تلك الحروب حالة مثاقفة. أمّا العرب المسلمون فيتفق معظم الدارسين على أنهم تعاملوا مع هذه الظاهرة الخطيرة بكثير من اللامبالاة، وبقي وعيهم بالأوروبي قاصراً على وعيه بهم؛ إذ غفلوا عن رمز الصليب المرفوع، وانشغلوا بتصنيف الأوروبي تصنيفاً إثنيّاً محدوداً تحت اسم «الإفرنج». وظلت صورة هذا الإفرنجي غير دقيقة في مؤلفاتهم… وظل الاحتقار هو الإحساس الموجّه إليه، وهذا ما جعله بعيداً عن صفة «العدو» – في نظر العرب المسلمين – التي تقتضي الاعتراف بقوة الآخر ونديته وخطره، فضلاً عن ضرورة معرفته».

التفوّق في الأندلس
تعدّ الأندلس إحدى أهم البؤر التي اشتد فيها الاحتكاك بين العربي المسلم، والإسباني المسيحي، لكنها تميّزت بشدّة انفتاح العرب على أوروبا، فكثر مكتشفو بلادهم من الأندلسيين، وكان النتاج مزيداً من المؤلفات التي تصف رحلاتٍ عديدة، ومنها بعثة «الغزال» إلى بيزنطة وبلاد النورمان، ونقتطف منها: «… لكن الملك جعل الباب الذي يفضي إلى مجلسه واطئاً بحيث لا يجتازه المرء إلا راكعاً، كي يُكره الغزال على السجود له. لكن الغزال أبطل حيلة الملك بذكائه وفطنته، فلما وصل إلى الباب، جلس إلى الأرض، وقدّم رجليه، وزحف على أليته زحفاً، فلما جاز الباب استوى واقفاً. والملك قد أعد له، وأحفل في السلاح والزينة الكاملة، فما هاله ذلك، ولا ذعره. فعجب الملك من حكمته ودهائه، وقال: أردنا أن نذله، فقابل وجوهنا بنعليه، ولولا أنه رسول لأنكرنا ذلك عليه».

أوّل تحقيق لابن فضلان
والمبحث الثاني حمل عنوان رسالة ابن فضلان من «سامي الدّهان» إلى «مايكل كرايتون»، والذي عرّف بتاريخ «ابن فضلان» ورحلته، وقدّم تحقيق «سامي الدهان» للرسالة الأصليّة، وبحث في رواية «أكلة الموتى» الأميركيّة، وتداخل رحلة «ابن فضلان» في رواية «كرايتون»، وبراهين «كرايتون» على النص التّاريخي، ونقد هذه البراهين ونقضها، وصولاً إلى اعترافات «كرايتون». «قدّم سامي الدهان أوّل تحقيق عربي لرسالة «ابن فضلان» معتمداً في تحقيقه لها على صورة شمسيّة لمخطوطة الرسالة التي وُجدت بمدينة مشهد الإيرانيّة، لكنه لم يهمل النصوص التي أثبتها ياقوت، وإنما قابل نسخة مشهد بنصوص ياقوت، واعتمد عليها في تصحيح الأخطاء الواردة في المخطوطة، وسدّ أيّ نقصٍ فيها».
«كرايتون» والخيال

وفي مؤلف رواية «أكلة الموتى» أي «مايكل كرايتون» نذكر ما وصفه الكتاب: «ولد كرايتون في شيكاغو عام 1942. وله عدد من الروايات الخياليّة المشهورة، وأشهرها عندنا «أكلة الموتى» بسبب ارتباطها بنص ابن فضلان. كتب هذه الرواية عام 1974. وأتبع عنوان الرواية بعبارة «عن مخطوطة ابن فضلان»، وهذه العبارة تثبت أن رواية كرايتون رواية تاريخيّة لا خياليّة، وأنّها تعتمد على مخطوطة ابن فضلان». ويشير نصّ هذا الكتاب في مقطعٍ آخر إلى انحراف «كرايتون» في مسار خاصّ لا شأن للرسالة به فيذكر: «لكن كرايتون – الساخر من علماء أوروبا الأذكياء، والمقتنع تماماً بأنّه من المستحيل «أن نعتبر أن أوروبيي ما قبل التاريخ متوحشون ينتظرون بخمول بركات الحضارة الشرقيّة» – أكد أنّ الاكتشافات الحديثة أثبتت أن الشماليين كانوا أصحاب حضارة سبقت حضارة اليونان، وانّهم كانوا يتمتعون بمهارات تنظيميّة، ومعارف فلكيّة مكنتهم من بناء «استون هينج» أقدم مرصد في العالم، وأنّهم استعملوا المعادن قبل أن يستعملها اليونانيون، فضلاً عن أنهم بنوا قبوراً هائلة قبل أن يبني الفراعنة أهراماتهم». ويذكر «سامي الدهان» في النهاية موجزاً جملة ارتكبها كرايتون من الأخطاء فيقول: «… كرايتون لم يقدّم لنا في روايته مخطوطة ابن فضلان المزعومة، ولم تكن غايته قط؛ إذ لو كانت غايته تقديم المخطوطة لما تجاهل نصّ مشهد، ولما حذف نصوصاً كاملة أثبتها ياقوت، وهما أهم مصدرين لرسالة ابن فضلان، ولما غلب عليهما مخطوطات هزيلة مشكوك فيها وفي أصحابها. وإنّما أراد أن يخلق ابن فضلان جديداً، ويدفعه إلى رحلة توافق أطروحته…».

الذات الفضلانيّة
وفي القسم أو المبحث الثالث، والذي جاء بعنوان الذات الفضلانيّة في نص «حيدر محمد غيبة» والذي عرّف بنص «غيبة» وبالآثار السلبيّة الناجمة عن دمج النصين العربي والإنكليزي، وفي شكوك «غيبة» بنص «كرايتون»، وفي مركزيّة الذات لدى «ابن فضلان»، واستعلائها، وانهزامها، والاستسلام، وانقطاع الانتماء إلى الذات العربيّة الإسلاميّة، ومراحل تكون الذات الفضلانيّة الشماليّة، وصورة «ابن فضلان» بين التنميط والاختراق. وبعد إقبال «غيبة» في ترجمة رواية «أكلة الموتى» يلاحظ اختلاط رغبة الكاتب في إثبات أقسام رسالة ابن فضلان، ونسف أقسام أخرى منها، ما يدفعه من جديد للبحث عن المنسوف منها، والتشكيك في القسم الذي حاول إثباته، وبذلك تختلط الترجمة بالدراسة، فمن نصّ عربي تمّت ترجمته إلى الإنكليزيّة، إلى نصّ إنكليزي تتمّ ترجمته إلى العربيّة، ويبقى لابن فضلان رحلة ومسيرة بين ذهابٍ وعودة، وملاحظات بين متكررة، وجديدة، يقدّمها الباحثون.

سبع ثمرات
في الخاتمة أورد الكتاب 7 نتائج تم الوصل إليها اعتماداً على نصّ غيبة والنصوص التي أُسس منها فكانت الأولى: إن ثنائيّة أوروبا «القروسطيّة، الإسلام» ثنائيّة سلب صاغتها أوروبا القروسطيّة من خلال قيام الكنيسة بتشكيل صورة نمطيّة عدوانيّة شيطانيّة للإسلام.
والثانيّة: المدوّنات العربيّة التي تنتمي إلى الأدب الجغرافي، قدّمت تمثيلات متنوّعة للآخر الغربي. والثالثة: الروائي الأميركي بنى نصه على أطروحة، خلاصتها التشكيك في الأصول الشرقيّة للحضارة، وإثبات وجود حضارة الفايكنج.
والرابعة: اعتراف كرايتون بتلاعبه بنصين تراثيين هما الإنكليزي «بيولف» والعربي «رسالة ابن فضلان».
والخامسة: الوصف الانهزامي لابن فضلان في بداية رواية أكلة الموتى هو وصف مقصود لتجريد ابن فضلان من هويّته في اللغة والدين والثقافة.
والسادسة: في نصّ غيبة يذكر أن النص العربي يبيّن قوة الرحالة وتمسكه بثقافته وأصالته وتفرده أمام أهل الشمال على حين في النص الأميركي يصف قوة البطل المتخيل في تخليه السريع عن ثقافته وعن ذاته أمام الآخر الشمالي.
والسابعة: الكاتب الأميركي رسم في روايته صورة جديدة للعربي المسلم أكثر سلبيّة من صورته لدى أوروبا القروسطيّة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن